رؤى

الوجود الأمريكي في سورية.. دوافع البقاء بعد انهيار النظام

منذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، تدخّلت العديد من القوى الدولية في البلاد، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية واحدة من أبرز هذه القوى. مع تدهور الوضع في سورية وتفاقم الصراع بين الحكومة السوريَّة والمعارضة، تدخلت الولايات المتحدة عسكريا في إطار “الحرب على الإرهاب”، ومكافحة تنظيم “داعش” الذي استفاد من الفوضى؛ ليوسع نفوذه في سورية والعراق. ورغم مرور أكثر من عقد على الصراع في سورية، واستمرار الحديث عن مستقبل البلاد بعد بشار الأسد، ما يزال الوجود العسكري الأمريكي في سورية قائما.

بل، من الملاحظ أن الولايات المتحدة تحتفظ بحضور عسكري في مناطق استراتيجية داخل سورية؛ وبالرغم من أن عدد جنودها في الداخل السوري قليل، فلديها حوالي 900 جندي فقط، إلا أنها من خلال هذا الوجود العسكري، يمكنها التأثير على ماجريات ما تشهده سورية من أحداث، عقب سقوط نظام بشار الأسد، في 8 ديسمبر الجاري، 2024؛ خاصة أن سورية تعدُّ ساحةً لخصوم الولايات المتحدة؛ سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي.

ومن ثم.. أعلنت إدارة الرئيس بايدن، أن القوات الأمريكية ستظل في سورية، لـ”مهمة كبيرة ستُكملها هناك”.. ما المهمة؟ وما الدوافع الأمريكية لاستمرار وجودها العسكري في سورية؟

تتعدد الدوافع الأمريكية في استمرارية التواجد العسكري في الداخل السوري، رغم محدودية هذا التواجد.. كما يلي:

1– حماية حلفاء الولايات المتحدة المحليين؛ إذ يترافق الوجود الأمريكي في سورية مع دعمها لـ”قوات سورية الديمقراطية”، وهي تحالف يضم فصائل كردية وعربية؛ قاتلت بجانب الولايات المتحدة ضد “داعش”. هذه القوات الكردية، التي تتواجد في الشمال الشرقي من سورية، تُعدُّ أحد أبرز شركاء الولايات المتحدة؛ بيد أن هذا التحالف جعلها هدفا للعديد من القوى الإقليمية، أبرزها تركيا التي تعتبر القوات الكردية تهديدا لأمنها القومي.

ومن ثم، فإن بقاء الولايات المتحدة في سورية يُعدُّ عامل ردع، ضد أي محاولات تركية أو قوى أخرى لمهاجمة القوات الكردية، أو السيطرة على المناطق التي تسيطر عليها. بعبارة أخرى، استمرار التواجد الأمريكي هو وسيلة لحماية حلفائها المحليين وضمان عدم تدهور الوضع الأمني في تلك المناطق.

2– التوازن مع النفوذ الروسي والإيراني؛ فمنذ بداية الأزمة السورية، كانت روسيا وإيران من أبرز داعمي النظام السوري، وقد استثمرت هاتان الدولتان موارد عسكرية واقتصادية هائلة، للحفاظ على بقاء الأسد في السلطة. بينما كانت الولايات المتحدة تسعى لفرض توازن إقليمي لمنع تمدد النفوذ الإيراني والروسي في المنطقة. ورغم أن النظام السوري قد انهار، فإن النفوذ الإيراني والروسي في سورية لن يتلاشى بسهولة.

وبالتالي، فإن بقاء القوات الأمريكية على الأراضي السورية، يمثل عاملا لخلق توازن قوة في المنطقة، ومراقبة تحركات إيران وروسيا. وهذا يُعتبر جزءا من استراتيجية أوسع، تسعى الولايات المتحدة من خلالها إلى حماية مصالحها في الشرق الأوسط والحفاظ على نفوذها في الساحة الجيوسياسية السورية.

3– منع تمدد النفوذ الإيراني؛ إلى جانب وجودها العسكري في سوريا، تسعى إيران إلى تعزيز وجودها في سورية من خلال نشر قواتها أو المليشيات المتحالفة معها، ومنها بعض الميليشيات العراقية. هذه القوى تعمل على تأسيس بنية تحتية عسكرية وأمنية تهدف إلى ربط سوريا بلبنان والعراق، ما يُشكل “جسرا بريا” يربط بين إيران وشرق البحر المتوسط. وبالطبع.. ترى الولايات المتحدة في هذا التمدد تهديدا مباشرا لحلفائها في المنطقة، وخاصة إسرائيل.

لذلك، فإن وجود القوات الأمريكية في سوريا يتيح لها مراقبة هذا التمدد، وشن هجمات أو ضربات جوية ضد أي محاولات إيرانية لتعزيز وجودها العسكري في الداخل السوري. ومن هذا المنطلق، يُعدُّ استمرار الوجود الأمريكي في سورية جزءا من استراتيجية أوسع تهدف إلى منع إيران من إنشاء نفوذ إقليمي مستدام.

4– التحكم في محاولات التوسع التركية؛ فمنذ بداية النزاع السوري، سعت تركيا إلى تعزيز نفوذها في شمال سورية، لا سيما في المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية. كما تدخّلت تركيا عسكريا في شمال سورية، لاحتواء ما تعتبره تهديدا كرديا على حدودها. ورغم تحالف تركيا مع الولايات المتحدة في إطار حلف الناتو، إلا أن هناك تنافسا ضمنيا بين الجانبين حول السياسات المتبعة في سورية.

وهو ما يعني، أن بقاء الولايات المتحدة في سورية يعزز قدرتها على التأثير في ميزان القوى، ومنع تركيا من بسط سيطرتها على مناطق واسعة من الشمال السوري. هذا التواجد العسكري، يمكن فهمه بأنه جزء من استراتيجية أوسع للحفاظ على الاستقرار في الشمال السوري، ومنع تفاقم النزاعات الإقليمية.

5– حماية أمن إسرائيل؛ حيث إن أحد أهم دوافع الولايات المتحدة في المنطقة، وتحديدا في سورية، هو حماية أمن إسرائيل. الموقع الجغرافي لسوريا بجانب إسرائيل، يجعلها منطقة ذات أهمية إستراتيجية بالغة، من المنظور الأمريكي؛ وقد أعربت إسرائيل مرارا وتكرارا عن قلقها من التمدد الإيراني في سورية، ومن محاولة حزب الله بناء قواعد جديدة قرب حدودها الشمالية.

من هنا، يشكل الحفاظ على تواجد أمريكي في سورية، عامل طمأنة لحليف الولايات المتحدة الأساسي في المنطقة، وهو إسرائيل. إذ من خلال وجودها العسكري في سوريا، تستطيع الولايات المتحدة ليس فقط مراقبة الأنشطة الإيرانية؛ بل تقديم دعم فوري لإسرائيل أيضا، في حال تصاعد التوترات الأمنية في الجولان أو المناطق الحدودية الأخرى.

6– حفظ مكان في إعادة إعمار سورية؛ إذ إن سورية بعد الأسد ستحتاج إلى إعادة إعمار شاملة، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي. هذا الملف يُعدُّ من الملفات الكبرى التي ستحدد مستقبل سورية وموقعها في النظام الإقليمي والدولي. وبالطبع، تدرك الولايات المتحدة جيدا أن انسحابها المبكر من سورية، سيترك الساحة مفتوحة لروسيا وإيران ليعيدا تشكيل سورية وفق مصالحهما.

وبالتالي، فإن بقاء القوات الأمريكية في سورية؛ يمثّل أداة لضمان حصول العم سام على دور فاعل في صياغة مستقبل سورية بعد الأسد؛ سواء من خلال التأثير في المفاوضات السياسية، أو من خلال المشاركة في عملية إعادة الإعمار، حيث ترغب الولايات المتحدة في ضمان أن لا تتحول سورية إلى حليف كامل لروسيا وإيران.

وهكذا.. رغم أن نظام بشار الأسد قد انهار، إلا أن دوافع استمرار الوجود العسكري الأمريكي في سورية تظل قوية ومتعددة. ومن خلال هذا التواجد، تسعى الولايات المتحدة تسعى إلى موازنة النفوذ الروسي والإيراني، وحماية حلفائها المحليين، ومنع التمدد الإيراني، فضلا عن حماية أمن إسرائيل وضمان دورها في إعادة إعمار سورية.

في ظل هذه المعطيات، يبدو أن الوجود العسكري الأمريكي في سورية لن ينتهي في المستقبل القريب، حتى مع انهيار نظام الأسد، وذلك لضمان تحقيق أهدافها الاستراتيجية في المنطقة.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock