رؤى

الحوار الإلهي.. إبراهيم عليه السلام نموذجا

“الحوار” في اللسان العربي من “حوُر” وهو “الرجوع والتردد بين شيئين”؛ والحَوْر “النقصان بعد الزيادة، لأنه رجوع من حال إلى حال”. والحوار -في حقيقته- ظاهرة إنسانيّة، وهو أسلوبٌ يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في رأيه قاصدا بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره.

ولم يرد لفظ “حوار” في القرءان الكريم إلا في مواضع ثلاثة؛ جاءت اثنتان منها في سورة الكهف، وذلك في معرض الحديث عن قصة “صاحب الجنتين” وحواره مع صاحبه الذي لا يملك مالا كثيرا؛ أما الموضع الثالث فقد جاء في سورة المجادلة. إلا أن لفظ “حَوْر” قد ورد في موضع رابع في سورة الانشقاق، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ” [الانشقاق: 14].

والملاحظ، أن لفظ “حَوْر” قد ورد، هنا في الآية الكريمة، في صيغة الفعل؛ بما يعني يرجع (حار فلان يحور إذا رجع)، أي إن هذا الإنسان “ظن أنه لن يرجع”. والملاحظ، أيضا أن السياق القرءاني في السورة يتناول موقف الإنسان من الحساب، يوم الحساب. يقول عزَّ من قائل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدۡحٗا فَمُلَٰقِيهِ ٭ فَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ بِيَمِينِهِۦ ٭ فَسَوۡفَ يُحَاسَبُ حِسَابٗا يَسِيرٗا ٭ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورٗا ٭ وَأَمَّا مَنۡ أُوتِيَ كِتَٰبَهُۥ وَرَآءَ ظَهۡرِهِۦ ٭ فَسَوۡفَ يَدۡعُواْ ثُبُورٗا ٭ وَيَصۡلَىٰ سَعِيرًا ٭ إِنَّهُۥ كَانَ فِيٓ أَهۡلِهِۦ مَسۡرُورًا ٭ إِنَّهُۥ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ ٭ بَلَىٰٓۚ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرٗا” [الانشقاق: 6-15].

الحوار الإلهي

إلا أن ما نود التأكيد عليه، في دراستنا عن الحوار القرءاني، أن الحوار في التنزيل الحكيم لا يمكن حصر مساحته في الآيات الكريمات التي تتضمن مادة “حوار” فقط؛ ولكن يمكننا أن نعتبر كل المواد الحوارية الواردة في القرءان الكريم، بمثابة الشاهد على مسألة الحوار القرءاني.. لذا يمكن البدء بـ”الحوار الإلهي” مع الملائكة، بوصفه أحد أهم النماذج القرءانية على مسألة الحوار.

هنا، ننطلق من الحوار الإلهي مع الملائكة، بخصوص خلق آدم عليه السلام؛ وهو ما يتبدّى بوضوح من خلال قوله سبحانه: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 30]. وعبر هذه الآية الكريمة، لنا أن نلاحظ كيف أن المولى عزَّ وجل لم يُعنف الملائكة على تساؤلهم بشأن خلق آدم، أو جعله خليفة؛ ولكنه -سبحانه- اكتفى معهم بـ”مقدمة منطقية” وذلك في قوله: “إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ”.

بل إن هذه المقدمة المنطقية، كانت بداية لـ”الإثبات الإلهي” للملائكة، بأنهم لا يعلمون؛ وقد جاء السياق القرءاني لهذه الآية دال في هذا الإطار.. إذ يقول عزَّ وجل: “وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبِـُٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ٭ قَالُواْ سُبۡحَٰنَكَ لَا عِلۡمَ لَنَآ إِلَّا مَا عَلَّمۡتَنَآۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَلِيمُ ٱلۡحَكِيمُ ٭ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ” [البقرة: 31-33].

أيضا هناك الحوار الإلهي مع الأنبياء، وهو حوار يأتي في سياق “القصص القرءاني” إذ لكل حوار إلهي مع نبي من أنبيائه عليهم السلام، يحمل مضمونا معينا، ويتضمن قضية محددة.

أحد هذه الأمثلة، الحوار الإلهي مع نبي الله إبراهيم عليه السلام.. وفي ذلك، يأتي قول الله تبارك وتعالى: “وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِي كَيۡفَ تُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ وَٱعۡلَمۡ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ” [البقرة: 260].

وكما نلاحظ، فإن هذا الحوار الإلهي مع نبي الله إبراهيم، يؤكد على مشروعية الحوار، وأن الحوار -هنا- هو شكل من أشكال الاستدلال التوضيحي؛ إذ كان مضمون الحوار بين الله تعالى وإبراهيم يتعلق بـ”كيفية إحياء الموتى” بمعنى أن الاستدلال يختص بـ”الاطمئنان” وليس بـ”الإيمان”: “قَالَ أَوَ لَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطۡمَئِنَّ قَلۡبِيۖ”؛ أي الاطمئنان إلى أن الله سبحانه سوف يستجيب لطلب إبراهيم، في أن يريه هذه الكيفية.

ومن الواضح أن السياق القرءاني لم يتعرض لهذه المسألة، أي إنه لم يتعرض للإجابة على التساؤل: هل أجرى إبراهيم عليه السلام هذه العملية.. العملية التي يدل عليها قوله تعالى: “قَالَ فَخُذۡ أَرۡبَعَةٗ مِّنَ ٱلطَّيۡرِ فَصُرۡهُنَّ إِلَيۡكَ ثُمَّ ٱجۡعَلۡ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٖ مِّنۡهُنَّ جُزۡءٗا ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ”(؟!). وسواء أجرى إبراهيم هذه العملية، أم لم يجرها، أو إنه تيقن دون أن يجريها؛ فإن عدم تعرض التنزيل الحكيم لهذه المسألة، يبدو منطقيا، من منظور أن السياق القرءاني للآيات السابقة لهذه الآية، يؤشر إلى عدة صور من الحوار الاستدلالي، كان نبي الله إبراهيم -نفسه- أحد أبطال إحداها.

نعني قصة الحوار بين إبراهيم، و”ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ” يقول سبحانه: “أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحۡيِۦ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡيِۦ وَأُمِيتُۖ قَالَ إِبۡرَٰهِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأۡتِي بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ” [البقرة: 258]. وبصرف النظر عن هذا “ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ”، وسواء كان ملكا وكان اسمه “النمروذ” كما حاول كثير من المفسرين الإتيان باسمه ووظيفته، أم لا.. فإن الواضح أن الحوار القرءاني، يتسم بـ”المنطقية” في الاستدلال على سمات الله سبحانه “العلي القدير”، والقوانين التي وضعها سبحانه لتحكم حركة الكون والإنسان.

وما يجب ذكره هنا، أن الله تبارك وتعالى لو كان يريد تشخيص المسألة، كان قد ذكر اسم “ٱلَّذِي حَآجَّ إِبۡرَٰهِـۧمَ فِي رَبِّهِۦٓ” لكنه -سبحانه- أراد جعل الأمر عاما، أمر التساؤل حول “العلي القدير” والمحاججة بشأنه؛ بل وإمكان حدوث أمر المحاججة في أي زمان أو مكان.. ولذلك لم يأت على ذكر الشخص، مثلما أتى -كمثال- على اسم “مريم” الصديقة؛ من حيث إن حالة “مريم” لن تتكرر، في حين أن “المحاججة” يمكن أن، بل وسوف، تتكرر.

ملاحظة أخرى، بخصوص الحوار الإلهي مع إبراهيم، والتساؤل الإبراهيمي حول “كيفية إحياء الموتى”؛ إذ لنا أن نلاحظ كيف ورد في التنزيل الحكيم التأكيد على مسألة “السعي” وليس “الطيران”.. فقد كانت الخطوة الأخيرة في الإجابة الإلهية على طلب إبراهيم، هي: “ثُمَّ ٱدۡعُهُنَّ يَأۡتِينَكَ سَعۡيٗاۚ”؛ بما يعني أن الله تبارك وتعالى قد نقل الأمر من الطيران إلى السعي، رغم أنه من المفروض أن يأتي الطير “طيرا” أو طيرانا.

والواقع، أن هذا “النقل” إنما يأتي للدلالة على الاستجابة لطلب إبراهيم في الاطمئنان؛ من حيث إن “السعي” هو “حركة في الأرض لأجل هدف محدد”، وهو الأكثر استدلالا على التأكد، حيث إن رؤية هذه الحركة تكون عن قرب؛ في حين أن “الطيران” هو “حركة في السماء لأجل هدف محدد”، ورؤيتها تكون عن بعد.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock