“إسرائيل هزمت.. لا ينبغي أن يقال ذلك، ولكن ليس هناك خيار آخر.. لقد هُزِمنا. هزيمة كاملة لن تتحقق أهداف الحرب، ولن يعود المختطفون تحت الضغط العسكري، ولن يعود الأمن، ولن يختفي النبذ الدولي. خسرنا وهذا هو الواقع”. افتتاحية هآرتس.
“قطعت جهينة قول كل خطيب” كما يقول المثل العربي القديم، وما زال المتصهينون العرب يكابرون؛ برغم أنهم نصبوا المآتم وتلقوا العزاء، في أبواقهم الإعلامية وقنواتهم الفضائية.
على مدى شهور الحرب.. سار الكيان المؤقت إلى تحقيق هزيمته الكاملة بغرور قاتل؛ ليقبل في النهاية ما رفضه قبل نحو عام، لتكون التكلفة الباهظة التي دفعها من أرواح جنوده ومرتزقته- دون أدنى مقابل؛ ليزيد المجتمع الصهيوني حنقا على هذه الحكومة، التي أطالت أمد الحرب لأسباب شخصية، حسب تصريح لوزير الأمن القومي المستقيل، اليميني المتطرف رئيس حزب “القوة اليهودية” إيتمار بن غفير.
كان وزير الدفاع الأمريكي السابق لويد أوستن، قد حذّر دولة الاحتلال بعد بدء “طوفان الأقصى” بثلاثة أشهر فقط من أنها تسير نحو “هزيمة استراتيجية” ويجب عليها ألا تنخدع بـ “نصر تكتيكي” تحققه لحفظ ماء الوجه؛ دون أن تحقق أيا من أهدافها من الحرب، فـ “إسرائيل فشلت في تحقيق كل أهدافها التي قاتلت لأجلها، لأنها لم تتمكن من القضاء على حماس، ولا من استعادة الأسرى ولا من الإطاحة بحكم حركة حماس في القطاع” وفق ما أعلنه لواء الاحتياط غيورا آيلاند عرَّاب خطة الجنرالات.
الهزيمة لم تطل الكيان المؤقت وحده؛ ربما تكون الهزيمة الأكبر من نصيب الأمريكي الذي قدّم دعما غير مسبوق لآلة القتل والدمار الصهيونية، على مدى أشهر الحرب الخمسة عشر؛ ويعلم الأمريكيون تمام العلم مآلات تلك الحرب على كافة الأصعدة.
وصف السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز غزة بأنها “فيتنام جو بايدن” وهذه مقاربة ذات دلالات عديدة تتضمن الاعتراف بهزيمة الكيان الصهيوني، ومن خلفه الولايات المتحدة، كما تعيد إلى الأذهان الهزيمة الأخلاقية والعار الذي لحق بأمريكا جرّاء حرب فيتنام، والأمر -هذه المرة أشد وأنكى- كما أن الربط يضع أعداد الضحايا والجرحى وحجم الدمار الذي حدث في القطاع في موضعها الصحيح؛ كونها ثمن دفعه الشعب الفلسطيني طوعا في سبيل حريته وتحرير أراضيه، وليس مَغْرَما فادحا أدت إليه مغامرة غير محسوبة، نفّذتها المقاومة الفلسطينية فجر السابع من أكتوبر2023.
سيناريو اليوم التالي الذي طالما روّج له ناتنياهو؛ لم يكن في الحقيقة سوى كابوس استيقظ الصهاينة عليه صباح التاسع عشر من يناير2025، بمرأى رجال حماس في حُلل عسكرية كاملة البهاء، يشهرون الأسلحة، وهم يركبون سياراتهم التي تبدو جديدة، وسط الحشود المُرحِّبة والمحتشدة من أهل غزة الصامدين.
بهذا الشأن تحدث الصحفي الصهيوني چاي بيخور قائلا: “تنتشر شرطة المقاومة وقواتها العسكرية في كافة أنحاء قطاع غزة، ويستقبلون استقبال الأبطال. يبدو الجميع بملابس جميلة، سيارات جديدة، منازل قائمة، ربما لم تكن هناك حرب، وكانت مجرد كذبة؟ أأنتم تشاهدون “اليوم التالي” الشهير.. حيث عادت المقاومة، وعاد معها كل شيء، متى يغزون الغلاف؟ ما كنت لأبقى دقيقة واحدة في الغلاف، لأن الانتقام من اليهود سيكون فظيعا”.
مناورات ناتنياهو أثناء المفاوضات كانت عنوانا على البؤس، لم يحتفظ مجرم الحرب الصهيوني بشيء.. انصاع لكل ما أملته عليه المقاومة – ربما بضغوط أمريكية أخذت شكل الأوامر المباشرة- ما في يُعرف بأزمة خرائط الانسحاب، بدا الأمر مضيعة للوقت، ممانعة لإثبات “التمسك بمحور صلاح الدين لآخر نفس” حسب يائير شركي المراسل بالقناة 12 العبرية، رفضت المقاومة أي اتفاق لا يشمل انسحاب قوات الاحتلال من محوري فيلادلفيا ونتساريم، وهو ما تضمنته الصفقة الأخيرة بشكل مرحلي.
انصياع ناتنياهو للإملاءات الفلسطينية؛ كشف عن حجم الضغوط التي مارسها عليه ترامب، الذي أبلغه أن المصالح المشتركة بين أمريكا وإسرائيل؛ لا يجب أن تتهدد بسبب أن “نتنياهو أصبح يرهن المصالح الإسرائيلية والأميركية الكبرى بمصالحه الشخصية”.
في مشهد تسليم الأسيرات الثلاث في قلب ميدان السرايا بقلب غزَّة وضع رجال المقاومة مقعدين وطاولة.. ليس أمامهما شيء.. ظل المقعدان خاليين طوال فترة تسليم الأسيرات؛ أشار أحد المحللين إلى أن المقعدين الخاليين للقائدين الشهيدين إسماعيل هنية، ويحيى السنوار، ولا مقاعد في الجانب الآخر من الطاولة.. لأن الطرف الآخر جثا على الأرض أثناء عملية التفاوض، وقبل بما أملي عليه صاغرا؛ بعد أن “دفعت تل أبيب ثمنا باهظا في حرب لم تستطع تحقق شيئا من أهدافها”.
يتساءل محلل الشئون الفلسطينية في قناة “آي 24″ تسفيكا يحزقيلي، عما يمنع حماس من بناء قوتها واستعادة مبادرة القتال وقتما شاءت، ويضيف: “الأمر المؤلم يتمثل في أن إسرائيل سيكون عليها مواجهة المقاومة مستقبلا دون أن تكون موجودة في غزة، وهو ما يعني أنها فشلت في تحقيق أهداف الحرب بسبب الضغوط التي مارستها عليها حماس”.
يؤكد يحزقيلي أن المقاومة الفلسطينية لم تخضع لأية ضغوط حاولت الأطراف ممارساتها عليها، وبرهنت أنها غير قابلة للضغط، وأن استجاباتها كانت في إطار واحد، هو إجهاض أية محاولة من الجانب الصهيوني للتهرب من النقاط الأساسية التي حددتها حماس سلفا لقبول الاتفاق.
بعد كل ذلك علينا أن نعجب كل العجب، من هؤلاء الذين ما زالوا يرددون نفس اللحن القديم، الذي لم يعد ليطرب أحدا، عن أن طوفان الأقصى كان مغامرة غير محسوبة، والحقيقة أن طوفان الأقصى كان ضرورة قصوى لا يمكن المحيد عنها، وإن بدا الثمن فادحا في نظر البعض؛ وإن كان.. فالأوطان لا تسترد بالبخس، بل بالتضحيات الكبرى وزكي الدماء.. وهذا مما لا يختلف عليه عاقلان.