رؤى

كيف أصبحت علاقة الغرب بالإسلام عقدة مستحكمة؟ مراد هوفمان شاهدًا

منذ نحوٍ من ثلاث سنوات رحل عن عالمنا الدبلوماسي والقانوني المفكر الدكتور مراد همفريد هوفمان بعد رحلة حياة حافلة بالمحطات الهامة.. كان أهمها تحوُّله إلى الإسلام، ثم محاولاته المعمقة لفهمه على نحوٍ غير اعتيادي، كما اهتم بكشف أسرار عداء الغرب للإسلام، والذي أنتج كثيرا من الممارسات الإجرامية والمتوحشة على مدى قرون عديدة وإلى يومنا هذا.

ذهب هوفمان إلى أن تلك العلاقة من جانب الغرب تحكمها عُقد ترسّخت في العقل الغربي، اشتعلت بنيران الحقد على شريعة محمد، من يوحنا الدمشقي إلى سلمان رشدي وتسليمة نسرين، وغيرهما.. ولعل تلك الكراهية التي أشعلت حربا بلا هوادة، لم تضع أوزارها حتى الآن- منبعها تلك المعرفة بالقوة الكامنة في هذا الدين، التي تمنحه القدرة على التمدد والانتشار في أصعب الظروف ناهيك عن الصمود ومواجهة كل محاولات التشويه الداخلية قبل الخارجية.

عاين هوفمان تلك القوة التي يتحدث عنها في الجزائر أثناء حرب الاستقلال، حين عمل دبلوماسيا في السفارة الألمانية هناك.. قارن د. مراد بين الغربي الذي تحكمه النزعة الاستعلائية، وهو مستسلم تماما لروح الانتقام المجنونة التي تلبّسته، وأدخلته في دائرة العنف غير المبرر في إشارة إلى ما قامت به منظمة الجيش السري وهي منظمة إرهابية فرنسية ارتكبت فظائع لا مثيل لها في الجزائر في مطلع الستينات من القرن الماضي- وبين ذلك الجزائري الذي قاوم هذا الإرهاب البشع بإيمان عميق وصمود ورباطة جأش إلى حد لا يمكن تصوره؛ وقد عزا هوفمان كل ذلك لقوة الدين الإسلامي في نفوس الجزائريين.. ثم تأكدت لديه تلك الشواهد بعد الفترة التي قضاها في المغرب سفيرا لبلاده؛ بما رآه من الطبيعة السمحة والوادعة لأهل تلك البلاد. وكان هوفمان قد عرف الإسلام قارئا مدققا منذ كان شابا في العشرين. ولم يقدم هوفمان على خطوة دخول الإسلام إلا بعد أن أتم عامه الخمسين.. ثلاثة عقود كاملة كانت كفيلة بإصدار حكم لا ينقصه الإنصاف، ولا يمكن أن تكون به شبهة تحيز.

استقلال الجزائر
استقلال الجزائر

رصد ناقد فن الباليه وأحد أمهر متذوقي الخمور في أوروبا- سابقا، بعين الخبير الذي لا يكف عن المقارنة بين واقعين شديدي التباين- هذا التوازن الدقيق بين المادة والروح في الإسلام، ففي حين أن الآخرة هي دار الجزاء؛ فإن الدنيا هي دار العمل.. ويتطلب ذلك خضوع المسلم لضوابط توفر عليه التيه في صحراوات من الأباطيل، بينما الأمر لا يحتاج سوى الاستسلام للفطرة؛ فالإسلام حسب تعبيره “دين شامل وقادر على المواجهة، وله تميّزه في جعل التعليم فريضة، والعلم عبادة.. وإن صمود الإسلام ورفضه الانسحاب من مسرح الأحداث، عُدَّ من جانب كثير من الغربيين خروجا عن سياق الزمن والتاريخ، بل عَدّوه إهانة بالغة للغرب”.

وهذا ما يبرر شيئا من ازدواجية المعايير لدى الغرب، ففي حين يرى الغرب أضحية المسلمين في العيد عملا وحشيا- يغض الطرف عن قتل مئتي ألف إنسان واغتصاب خمسن ألف امرأة وتشريد الملايين في قلب أوروبا أواسط التسعينات من القرن الماضي؛ لا لشيء إلا لكونهم مسلمين. (يقصد مأساة حرب البلقان).

لذلك دعا الرجل إلى إعادة النظر في أسس الحوار بين الغرب والإسلام، إذا كان الطرفان جادين في الوصول إلى نتائج ملموسة.. وأوجب كذلك على المسلمين أن يغيروا كثيرا من الأمور المستقرة لديهم بهذا الشأن، ومن أهمها أن ينبذوا ذلك الأسلوب الاعتذاري التبريري الذي يعتمدونه عند مخاطبة الغرب، كما أن عليهم أن يثبتوا وجودهم بكل وسيلة ممكنة مع العمل على توسيع مجالات التأثير الثقافية والفكرية بإحياء فريضة الاجتهاد التي تجدد واقعيا الدين الإسلامي، وهي الوحيدة التي تجعله مؤهلا ليكون “…الحل الوحيد للخروج من الهاوية التي تردّى الغرب فيها، باعتباره الخيار الوحيد للمجتمعات الغربية في القرن الحادي والعشرين”. كما أن الإسلام بإمكانه أن يُمثّل “الحياة البديلة بمشروع أبدي لا يبلى ولا تنقضي صلاحيته، وإذا رآه البعض قديما فهو أيضا حديث ومستقبليّ لا يحدّه زمان ولا مكان، فالإسلام ليس موجة فكرية ولا موضة، ويمكنه الانتظار”.

الإسلام بديل

وبوصفه كان ناقدا فنيا للباليه اهتم د. مراد بسبر غور رؤى الإسلام فيما يخص الفنون، مع ارتفاع النبرة التي تصم الدين الحنيف بمعاداة الفنون وتحريمها.. رأى هوفمان أن الإسلام أولى الفنون عناية خاصة جدا؛ وذهب إلى أن السر يكمن في الحضور القوي لروح الإسلام البادية بشكل شديد الحميمية في كل مظاهر فنونه، بدءا من الخط العربي بتنويعاته الساحرة؛ كذلك في فن الأرابيسك ونقوش السجاد، وعمارة المساجد وأسرار إضاءتها، والقصور الإسلامية وطريقة بنائها الموحية باتجاه الحركة إلى الداخل.

 لقد أراد د. مراد لفت انتباه المسلمين إلى ما يمثله الفن في الإسلام من قوة جذب هائلة، فهو كأحد المتخصصين في فن الباليه، وكباحث دءوب في أصول علم الجمال- كان قد توصل إلى أن الحركة وما تنطوي عليه من مخاطرة هو ما يستحوذ على الانتباه البشري، ويثير شغفه، كما أن الإعجاب بحركات الطرد المركزي ربما كان مردُّه إلى كونها موحية باللانهائية.. ثم أنه لاحظ ذلك في فنون الإسلام التي تمنح من خلال سكونيتها حركة داخلية؛ تشي بالقدرة الإنسانية واللانهائية في إطار من الروحانية التي يتسم بها الدين الإسلامي.

كما لاحظ الرجل أثناء جولاته المتكررة في المدن الإسلامية العتيقة، مثل دمشق والقاهرة وفاس أن الفن الإسلامي ينظم ذروة حيوية، لا تقيم حواجز بين الناس، بقدر ما تمنحهم من ارتياح مبعثه في الأصل فكرة المساواة بين البشر، مع استبعاد أي مؤثرات للتمييز؛ لأنها تجافي تلك الأجواء المغلفة بالطمأنينة، والتي تستند إلى وحدانية الإله المحب لخلقه، دون مفاضلة إلا على أساس التقوى والعمل الصالح.

 وبما أن هوفمان كان من متذوقي الخمر البارزين- رأى أن ينظر في أسباب التحريم القطعي للخمر في الإسلام، وهو أمر ينظر إليه الغرب باستنكار بالغ برغم أن الفاتورة التي يدفعها الغرب بسبب انتشار تعاطي الخمور في المجتمعات العربية باهظة إلى حد كبير، والدكتور هوفمان نفسه كاد يقفد حياته بسبب القيادة المتهورة لأحد السائقين المخمورين، عندما كان في العشرين من عمره، وقد نجا من الموت بأعجوبة، عزاها الطبيب المعالج لأمر خطير تخبئه العناية الإلهية لهوفمان، فسره بعد ذلك د. مراد بأنه تعرفه على الإسلام واعتناقه إياه.

ورأى د. مراد أن الغرب قد فشل في كل محاولاته الرامية إلى الحد من الآثار المدمرة لانتشار إدمان الخمور خاصة بين الشباب، في المقابل نجح الإسلام في التصدي للمشكلة بحسم، ما يؤكد أن نهجه هو الأجدى إن لم يكن الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه.

أما المبحث الأهم الذي أولاه المفكر الألماني البارز جهدا كبيرا، فهو الصلاة في الإسلام وما تمثله من قيمة إذا افتقدت لا يبقى للمرء من إسلامه شيئا حسب ما ذهب إليه دكتور هوفمان، كما رأى أن الصلوات اليومية في الإسلام؛ هي السبيل الوحيد للنجاة من الآثار المدمرة للتوتر العصبي الذي يحدثه تلاحق الأحداث والمستجدات في عالم أصيب بالجنون.

لم يخيّب الغرب ظن دكتور هوفمان؛ فلم يبد معه أي قدر من التسامح، إذ قوبل إسلامه بحملات من الهجوم والتشهير لم تتوقف حتى بعد رحيله. وللإنصاف كانت هناك استجابات على المستوى النظري والعملي لما طرحه هوفمان في رؤيته، وهذا الاستجابات -على قلتها- باتت ضرورية ولا غنى عنها للغرب الآن في ظل إفلاس فكري وروحي يجتاحه ويتهدد وجوده، برغم التقدم التكنولوجي الذي يبدو أنه لن يمثل عائقا قويا أم تغيرات دراماتيكية ينتظرها الغرب وخاصة أوروبا دون أن تملك حيالها رادعا قويا؛ فهل يكون الإسلام هو البديل كما يطرح هوفمان أم أن الأمر أطروحات الرجل لم تعد كونها جموحا عاطفيا لا أكثر كما ادعى البعض!

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock