منذ اندلاع الحرب الأخيرة في قطاع غزة، بين إسرائيل وحركة “حماس”، في السابع من أكتوبر، شهدت الساحة العسكرية في القطاع تصاعدا دراماتيكيا في حجم ونوع العمليات الإسرائيلية. ففي حين بدأت الحملة بضربات جوية واسعة، فإن المؤشرات المتلاحقة توحي بأن إسرائيل تتجه إلى توسيع نطاق عملياتها العسكرية على الأرض، سواء من حيث التوغل الجغرافي أو من حيث تنوع الأسلحة المستخدمة وزيادة الاستهدافات النوعية.
وكما يبدو، فقد أجرى رئيس الأركان الإسرائيلي الجديد، إيال زامير، تحولا كبيرا في استراتيجيات الحرب ضد حركة حماس في غزة؛ وذلك من خلال شن هجوم بري واسع النطاق، قد يستمر لفترة طويلة تمتد لأشهر عدة، قبل التوصل إلى تسوية سياسية في غزة.
فما دوافع إسرائيل وراء هذا التوسيع؟ وما أبرز المؤشرات الدالة عليه؟؛ ولماذا اختارت هذا التوقيت؟
دوافع استراتيجية
بالطبع، تتعدد الدوافع الإسرائيلية في توسيع العمليات العسكرية، في هذا التوقيت، على أكثر من جانب..
من جانب، محاولة تحقيق أهداف عسكرية معلنة؛ إذ أكدت إسرائيل منذ بداية الحرب، أن هدفها هو “القضاء على حركة حماس أو على الأقل “تفكيك بنيتها العسكرية والسياسية في غزة”. ورغم الضربات الجوية المكثفة، لم يتحقق هذا الهدف حتى الآن. ولذلك، يبدو أن القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية ترى في توسيع العمليات خيارا ضروريا لتحقيق ما تعتبره “نصرا استراتيجيا”، أو على الأقل صورة قريبة منه.
من جانب آخر، تجاوز الضغط الداخلي على الحكومة الإسرائيلية؛ حيث تتعرض حكومة بنيامين نتنياهو لضغوط سياسية وشعبية كبيرة، منذ هجوم 7 أكتوبر، حيث اعتبر كثير من الإسرائيليين أن ما حدث يمثل فشلا استخباراتيا وعسكريا غير مسبوق. ولتعويض هذا الفشل، يسعى نتنياهو ووزراؤه إلى استعراض القوة وتوسيع العمليات العسكرية لتقوية موقفهم الداخلي وتهدئة الرأي العام الغاضب.
من جانب أخير، محاولة كسر إرادة المقاومة؛ فإسرائيل تسعى -من خلال تكثيف العمليات وتوسيعها- إلى إرهاق الفصائل المسلحة في غزة، وعلى رأسها حماس، وكسر إرادتها القتالية، عبر تدمير قدراتها اللوجستية والأنفاق والبنية التحتية العسكرية، إضافة إلى استهداف قياداتها، سواء داخل قطاع غزة أو خارجها، خاصة في لبنان. وهذا لا يمكن تحقيقه من خلال القصف الجوي وحده، بل يتطلب عمليات برية مكثفة وتوغلا أعمق.
ولا يتوقف الاستهداف الإسرائيلي، بالطبع، عند حدود محاولة كسر إرادة المقاومة؛ ولكن أيضا إيصال رسالة ردع للمنطقة بكاملها. ففي ظل التوترات الإقليمية المتزايدة، تسعى إسرائيل إلى توجيه رسالة ردع مفادها أنها مستعدة لخوض معارك متعددة الجبهات، وأنها لن تتهاون في مواجهة أي تهديدات لأمنها القومي، حتى لو تطلب ذلك عمليات عسكرية مكلفة وطويلة الأمد (لبنان وسوريا واليمن.. أمثلة).
التوقيت والرهانات
تتعدد دلالات التوقيت والرهانات في توسيع العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة؛ على أكثر من جهة..
من جهة، الاستفادة من الغطاء الدولي المؤقت؛ إذ رغم الانتقادات الدولية المتزايدة، ما زالت إسرائيل تحظى بدعم غربي نسبي، خصوصا من الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو أن القيادة الإسرائيلية تسعى إلى استغلال هذا “النافذة الزمنية” قبل أن يتحول الغطاء السياسي إلى ضغط دولي لوقف إطلاق النار. فكلما طالت الحرب وارتفعت أعداد الضحايا المدنيين، كلما ضعُف موقف إسرائيل سياسيا وإعلاميا، لذلك هي تسعى إلى تحقيق أكبر قدر من “الإنجازات” الميدانية قبل أن تُفرض عليها التسوية، وفي إطار فشل المفاوضات السابقة وعدم انصياع حركة حماس للأوامر الترامبية، بالإفراج عن المحتجزين لديها.
من جهة أخرى، محاولة إرباك التفاهمات الفلسطينية؛ حيث تراهن إسرائيل على أن توسيع العمليات سيؤدي إلى شروخ داخل الجبهة الفلسطينية، سواء بين حماس والفصائل الأخرى، أو بين الجناحين السياسي والعسكري لحماس نفسها، خصوصا في ظل الضغوط المتزايدة على المدنيين ودمار البنى التحتية، مما قد يدفع بعض الأطراف داخل غزة للضغط من أجل وقف القتال بشروط أقل مما تطالب به المقاومة.
من جهة أخيرة، منع تعاظم النفوذ الإيراني داخل قطاع غزة؛ فإسرائيل ترى أن حماس، رغم أنها تنظيم سني، ترتبط بعلاقات وثيقة مع إيران وحزب الله. لذلك، فإن توسيع العمليات يأتي في إطار استراتيجية إقليمية تهدف إلى تقليص نفوذ طهران في المناطق المحيطة بإسرائيل. وإذا تمكنت تل أبيب من توجيه ضربة قوية لحماس، فإنها تكون قد وجهت رسالة غير مباشرة إلى إيران وحلفائها في لبنان وسوريا واليمن.
تعددية الأبعاد
في هذا السياق، يمكن القول بأن توسيع إسرائيل لنطاق عملياتها العسكرية في قطاع غزة، لم يكن مجرد خيار عسكري، بل قرار استراتيجي متعدد الأبعاد. هذا القرار نابع من دوافع أمنية وسياسية وإقليمية، ويتجسد في مؤشرات ميدانية واضحة تُظهر استعدادا إسرائيليا لخوض معركة طويلة ومعقدة. غير أن هذا التوسع، رغم ما قد يحققه من أهداف ظرفية، لا يُخفي التحديات الكبيرة التي قد تترتب عليه، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي. فالرهان على القوة وحدها في التعامل مع غزة، كما أثبتت التجارب السابقة، لا يُفضي بالضرورة إلى الاستقرار، بل قد يكون مدخلا لتجذير الصراع أكثر، وتمديده زمنيا وجغرافيا إلى آفاق غير متوقعة.
واللافت، رغم كثافة التحركات الدولية لوقف التصعيد، إلا أن المجتمع الدولي ما يزال منقسما بشأن المسار السياسي لما بعد الحرب، خاصةً في ظل غياب رؤية واضحة لمستقبل قطاع غزة، وطبيعة السلطة التي ستديره. فالولايات المتحدة تطرح فكرة إعادة تمكين السلطة الفلسطينية، بينما تتحفظ إسرائيل على هذا الطرح، في حين تروج بعض الأطراف لفكرة إدارة دولية مؤقتة.
هذا الانقسام يُعقّد مهمة الوسطاء، ويضعف من فرص نجاح المبادرات الحالية في تحقيق تهدئة مستدامة، ما لم يترافق ذلك مع اتفاق أوسع يشمل بُعدًا سياسيًا طويل الأمد.
إجمالا.. فإن توسيع إسرائيل لعملياتها في قطاع غزة ينطلق من حسابات معقدة، تشمل الرغبة في الحسم العسكري، واستثمار اللحظة السياسية، وتحقيق أهداف أمنية بعيدة المدى. غير أن هذا التوسيع يواجه تحديات كبيرة، تبدأ من المقاومة الميدانية الشرسة، ولا تنتهي عند الضغط الدولي المتصاعد.
تبقى الأيام القادمة حاسمة في تحديد ما إذا كانت إسرائيل ستواصل هذا التوسيع حتى تحقيق ما تسميه بـ”أهداف الحرب” أم إن الحسابات الدولية والإنسانية ستُجبرها على التراجع والقبول بتهدئة مؤقتة في انتظار جولة جديدة من الصراع المؤجل.