في خضم تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، تعود إلى الواجهة مسألة حيازة الصين “الضخمة” لسندات الخزانة الأمريكية. وازدادت أهمية هذ المسألة في أبريل الحالي، بعدما قررت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فرض رسوم جمركية جديدة على السلع الصينية، وصلت إلى 145%، مستهدفا قطاعات رئيسة مثل التكنولوجيا والإلكترونيات والصلب.
في المقابل، تُطرح تساؤلات جوهرية: هل يمكن أن تلجأ الصين إلى استخدام سندات الخزانة الأمريكية كأداة للضغط الاقتصادي؟ وما الاحتمالات المستقبلية للحرب التجارية المتجددة بين أكبر اقتصادين في العالم؟
الرسوم الجمركية
في أبريل الجاري شهدت العلاقات التجارية الأمريكية الصينية تصعيدا حادا، بعد أن قررت الإدارة الجمهورية إعادة فرض رسوم جمركية مرتفعة على مئات السلع الصينية، في خطوة وُصفت بأنها “حرب اقتصادية شاملة”. وقد شملت الرسوم الجديدة سلعا تُعد أعمدة رئيسة في الصادرات الصينية، مثل الرقائق الإلكترونية، البطاريات، الهواتف الذكية، الآلات الصناعية، وحتى الأدوات المنزلية.
جاءت هذه الخطوة جزءا من استراتيجية “أمريكا أولا” التي أعاد ترامب إحياءها في حملته السياسية، متهما الصين بـ”سرقة التكنولوجيا الأمريكية، وتخفيض عملتها عمدا، وإغراق السوق الأمريكية بالسلع الرخيصة” وهو خطاب يعود إلى سنوات رئاسته الأولى ( 20 يناير: 2017-2021).
من جانبها.. استنكرت الصين هذه الإجراءات، ووصفتها بأنها خرق للقواعد التجارية الدولية، وألمحت إلى إمكانية اتخاذ “خطوات مدروسة ومؤلمة” في الرد، من دون أن توضح طبيعتها؛ رغم ذلك يمكن استنتاج أن هذا التصريح يُعد تلميحا لإمكانية استخدام ورقة سندات الخزانة، أو فرض قيود على الشركات الأمريكية العاملة في الصين، أو تسريع فك الارتباط الاقتصادي بين البلدين.
سندات الخزانة
تُعد الصين ثاني أكبر حائز أجنبي لسندات الخزانة الأمريكية بعد اليابان، حيث تمتلك نحو 775 مليار دولار من هذه السندات، حتى فبراير 2025، وفقا لبيانات وزارة الخزانة الأمريكية. وعلى مدار العقدين الماضيين، حافظت الصين على استثمارات كبيرة في أدوات الدين الأمريكية، بوصفها جزءا من استراتيجيتها لإدارة الفوائض التجارية وحماية عملتها (اليوان) من التقلبات الحادة.
تستفيد الصين من هذه الاستثمارات من خلال ضمان استقرار قيمة احتياطاتها من النقد الأجنبي، وتسهيل التحكم في سعر صرف اليوان مقابل الدولار، وهو ما يُعزّز القدرة التنافسية للصادرات الصينية؛ كما توفر سندات الخزانة الأمريكية، للصين، استثمارا آمنا في بيئة مالية دولية غير مستقرة.
إلا أن التساؤل الذي يطرح نفسه، في هذا الشأن، هو: هل يمكن للصين أن تستخدم سندات الخزانة الأمريكية بوصفها “ورقة ضغط” لكبح جماح إدارة ترامب في التصعيد التجاري معها؟
في حقيقة الأمر، فإن حيازة الصين لهذا الكم الهائل من السندات يمنحها ورقة ضغط اقتصادية قوية، يمكن استخدامها في حال تصاعدت الخلافات مع الولايات المتحدة، خاصة في ظل تصاعد التوترات التجارية والاتهامات المتبادلة بشأن اختلال موازين التجارة العالمية.
نظريا يمكن للصين بيع كميات كبيرة من السندات الأمريكية في السوق، ما سيؤدي إلى ارتفاع العوائد (الفوائد) على هذه السندات، ورفع تكلفة الاقتراض على الحكومة الأمريكية، وضرب الثقة في الدولار الأمريكي.
إلا أن هذا السيناريو، رغم جاذبيته إعلاميا، يبدو صعب التطبيق عمليا لعدة أسباب.. منها: الأضرار المتبادلة بين أكبر اقتصادين في العالم؛ إذ إن بيع الصين لكميات كبيرة من السندات سيؤدي إلى انخفاض قيمتها السوقية، ما يعني تكبد خسائر فادحة في محفظة الاستثمارات الصينية نفسها. أضف إلى ذلك، اضطراب الأسواق العالمية، حيث إن خطوة كهذه قد تؤدي إلى حالة من الذعر في الأسواق المالية العالمية، ما سيؤثر سلبا على استقرار النظام المالي الدولي، وهو ما لا ترغب فيه الصين، التي تعتمد بدورها على بيئة اقتصادية مستقرة لتصريف صادراتها.
هذا، فضلا عن تداعيات مثل هذه الخطوة في تقويض قيمة الدولار؛ فأي ضربة للدولار الأمريكي تعني تلقائيا ارتفاعا في قيمة اليوان، ما يضر بالقدرة التنافسية للصادرات الصينية، ويقوض استراتيجية بكين القائمة على الحفاظ على سعر صرف منخفض نسبيا لعملتها.
احتمالات مستقبلية
مع استمرار التوترات التجارية، تتعدد المسارات المستقبلية المحتملة.. من بين هذه الاحتمالات، فك الارتباط المالي التدريجي؛ حيث تُشير مؤشرات عديدة إلى سعي الصين لتقليل اعتمادها على الدولار الأمريكي، سواء من خلال تعزيز التجارة بالعملات المحلية مع شركائها (روسيا، وإيران، وأمريكا اللاتينية)، أو عبر شراء الذهب، أو تأسيس آليات تسوية مالية بديلة. كما أطلقت بكين مؤخرا برنامجا لشراء سندات مقومة باليوان في أسواق شرق آسيا، في محاولة لتدويل عملتها.
أضف إلى ذلك، أن الصين قد تعزز تعاونها مع تكتلات اقتصادية منافسة، مثل مجموعة “بريكس بلس”، أو عبر مشروع “الحزام والطريق”، للالتفاف على الضغوط الأمريكية؛ وهو ما سيؤدي إلى مزيد من الاستقطاب الاقتصادي عالميا، بين تكتل تقوده الولايات المتحدة وآخر تقوده الصين.
من بين الاحتمالات أيضا، إمكانية توقع حرب عملات بين الصين والولايات المتحدة؛ ففي حال واصلت الولايات المتحدة فرض الرسوم، قد تلجأ الصين إلى خفض قيمة اليوان عمدا، وهو ما يعزز تنافسية صادراتها؛ لكنه -في الوقت نفسه- يهدد بإشعال “حرب عملات”، تؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار النقدي العالمي.
هذا فضلا عن إمكانية اللعب الصيني بورقة الشركات الأمريكية؛ إذ تضم الصين عددا من الشركات الأمريكية الكبرى العاملة في السوق المحلي، مثل “آبل”، و”تسلا” وغيرهما. ومن ثم قد تلجأ بكين إلى فرض قيود تنظيمية أو جمركية على هذه الشركات كإجراء انتقامي، دون الحاجة إلى المساس المباشر بسندات الخزانة، ما يسمح لها باستخدام أدوات ضغط أكثر مرونة وأقل كلفة.
في هذا الإطار.. يمكن القول إن ما يجري اليوم بين الولايات المتحدة والصين يتجاوز مجرد رسوم جمركية أو تبادل تجاري غير متكافئ؛ إنه جزء من صراع طويل الأمد على زعامة النظام الاقتصادي العالمي، يتخذ أشكالًا متنوعة، من التكنولوجيا إلى العملة، ومن النفوذ الجيوسياسي إلى الحرب المالية. ورغم أن الصين لم تلجأ حتى الآن إلى استخدام سندات الخزانة الأمريكية كسلاح مباشر، إلا أن هذه الورقة تظل حاضرة على الطاولة، ليس فقط كأداة ردع، بل كإشارة إلى حجم التشابك الاقتصادي المعقد بين القوتين.