رؤى

سوريا.. والاستغلال الأمريكي لورقة “المقاتلين الأجانب”

أثناء زيارته للمنطقة، وخلال لقائه الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن “المقاتلين الأجانب يجب أن يغادروا سوريا”، ضمن شروط رفع العقوبات عن سوريا. والمثير، أن أنباءً ظهرت بعد ذلك اللقاء بشأن مداهمات من قوات الأمن السورية، لقواعد خاصة بالمقاتلين الأجانب، في محافظة إدلب؛ وبالرغم من تلك الأنباء، ما يزال من غير الواضح، ما إذا كان الأمر صحيحا، أم مجرد شائعات إعلامية، أم إن الأمر لا يعدو أن يكون “مسرحيات سياسية”؟

والواقع، أن مسألة المقاتلين الأجانب في سوريا، خاصة في انضمام بعضهم إلى ما يُسمى “الجيش السوري الجديد”، تُمثل إشكالية كبرى؛ خاصة أنها تأتي في الوقت الذي تتصاعد فيه الضغوط الغربية والأمريكية -بشكل خاص- التي تربط بين الانفتاح السياسي والاقتصادي مع دمشق بعددٍ من الشروط، يأتي في مقدمتها ضرورة طرد هؤلاء المقاتلين الأجانب من الأراضي السورية.

وهو شرط أمريكي له مغزاه، في الضغط على عدد من الحلفاء في أوروبا، والمنافسين في آسيا.

منذ اندلاع الصراع على الأرض السورية، في عام 2011، تحوّلت سوريا إلى ساحة جذب للمقاتلين الأجانب من مختلف الاتجاهات الأيديولوجية والسياسية. توافد عشرات الآلاف من هؤلاء إلى الأراضي؛ للانخراط في القتال إلى جانب أطراف متباينة، أبرزها الجماعات المتطرفة كتنظيم “داعش” و”جبهة النصرة” (هيئة تحرير الشام، لاحقا)؛ وكذلك ميليشيات مدعومة من إيران، مثل “حزب الله” اللبناني و”فاطميون” و”زينبيون”، فضلا عن فصائل أخرى مرتبطة بتركيا ودول غربية.

هذا التعدد في جنسيات وأجندات المقاتلين الأجانب أسهم في تعقيد المشهد السوري، وتحويله إلى صراع إقليمي ودولي مفتوح. ومع سقوط النظام السوري، نظام بشار الأسد، باتت مسألة وجود هؤلاء المقاتلين تشكل محورا من محاور الجدل السياسي الدولي، خصوصا في ظل اشتراط دول غربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، مغادرتهم لرفع العقوبات المفروضة على سوريا.

واللافت -تاريخيا- أن سوريا ليست أول ساحة لجذب المقاتلين الأجانب؛ فقد سبقتها تجارب في أفغانستان والبوسنة والعراق، حيث اعتاد “المقاتلون” التوجه إلى بؤر النزاعات الطائفية أو السياسية. إلا أن الحالة السورية اكتسبت خصوصيتها، نتيجة عدة عوامل.. من بينها: البعد الطائفي للصراع، حيث تجذّر في سوريا خطاب ديني وطائفي مكثف، ما جعل منها ساحة “جهاد” مفضّلة للجماعات السلفية المتطرفة المدعومة من جانب دول سُنية، وجعلها في الوقت ذاته ساحة “دفاع مقدس” بالنسبة للشيعة المعبّئين من قبل إيران. ومنها، أيضا: الفراغ الأمني، الناتج عن انهيار السلطة في بعض المناطق، بما أتاح تسلل المقاتلين الأجانب دون رادع.

تأثيرات سلبية

بالطبع، فإن وجود هذا الكم الكبير من المقاتلين الأجانب، انعكس بشكل كارثي على الواقع السوري من عدة زوايا.. أهمها: تقويض السيادة الوطنية، حيث أسهم تدخل هؤلاء المقاتلين في تقويض مبدأ السيادة السورية؛ فقد تحوّلت البلاد إلى ساحة صراع لجهات غير سورية، وأصبح القرار العسكري والسياسي في كثير من المناطق مرهونا بأطراف أجنبية، وهو ما رسّخ واقع الحرب بالوكالة طوال سنوات الصراع، قبل أن يسقط بشار الأسد ونظامه.

أضف إلى ذلك، ما ساهم به هؤلاء المقاتلون في تعميق الانقسام المجتمعي، إذ لم يؤدِ دخول المقاتلين الأجانب إلا إلى زيادة الاستقطاب الطائفي والديني. فظهور “داعش” وممارساته الإرهابية رسّخ نظرة خوفية لدى مكونات الشعب السوري، وزاد من حدة الانقسامات الطائفية، خاصة بين السنّة والعلويين، وبين السنّة والشيعة. هذا، فضلا عن التهديد المستمر للاستقرار الأمني، فبالرغم من انحسار “داعش” وهزيمته ميدانيا، إلا أن الخلايا النائمة ما تزال نشطة في البادية السورية ومناطق دير الزور. كما أن الميليشيات الشيعية ما تزال تحتفظ بقدرات عسكرية مؤهلة لإشعال نزاعات في أي وقت، خاصة في حال تطور النزاع بين إسرائيل وإيران.

تحديات واحتمالات

تتبدى تحديات إخراج المقاتلين الأجانب من سوريا، عبر عدة صعوبات.. منها: عدم وجود آلية تنفيذية فعلية، حيث لا توجد قوة عسكرية، أممية أو إقليمية أو عربية، قادرة على فرض إخراجهم بالقوة. هذا، بالإضافة إلى رفض بعض الدول استعادة رعاياها؛ إذ العديد من الدول الغربية ترفض استعادة مواطنيها الذين قاتلوا ضمن “داعش”، أو غيره من التنظيمات المتطرفة، مما يبقيهم في المخيمات شمال شرق سوريا أو في السجون، دون حل دائم. ناهيك عن ضعف الدولة السورية “المركزية”، أو إن شئنا الدقة “عدم وجود دولة سورية مركزية”؛ وهو ما يجعل من الصعب فرض السيادة على كامل الأراضي السورية، ما يُبقي الباب مفتوحا أمام الفاعلين غير الرسميين.

أما بخصوص الاحتمالات المستقبلية المتوقعة، أو التي يمكن توقعها، فإنها تتراوح بين ثلاثة احتمالات: الأول، الاحتواء الجزئي والتقادم الزمني، بمعنى أن يتحول وجود المقاتلين الأجانب إلى واقع جغرافي مؤطر، داخل مناطق نفوذ محددة دون قدرة على التوسع. والثاني، التفاوض السياسي الشامل، الذي قد يؤدي إلى اتفاقات دولية تشمل خروج المقاتلين، ضمن حزمة متكاملة تتضمن إعادة الإعمار وتخفيف العقوبات. ثم، يأتي الاحتمال الثالث، والأخير، الذي يتمثل في الاستمرار في الوضع الراهن فترة من الزمن، وهو ما سوف يؤدي إلى بقاء النزاع المجمّد، دون حل جذري، ما يعني استمرار التأزّم وتكرار موجات العنف، التي بدأنا نشاهد إرهاصاتها خاصةً في مناطق الساحل السوري.

ورقة ضغط

في هذا السياق، يمكن القول إن قضية المقاتلين الأجانب في سوريا، تشكل أحد أكثر الملفات تعقيدا في الوضعية السورية الراهنة؛ حيث تتداخل فيها الأبعاد الأمنية والسياسية والإنسانية. وبينما يصر الغرب على ربط رفع العقوبات بحل هذا الملف، يبقى الواقع على الأرض مليئا بالتحديات، خاصةً مع عدم وجود إرادة دولية حقيقية لإيجاد حل لهذه الإشكالية.

في النهاية، المقاتلون الأجانب في سوريا ليسوا مجرد عَرَض من أعراض الأزمة، بل أصبحوا أحد أسباب إطالة أمدها وتفاقمها، من منظور أن تأثيرهم يتعدى الداخل السوري إلى المحيط الإقليمي والدولي، وملفهم بات ورقة تفاوض حيوية في يد القوى الكبرى، خاصةً الولايات المتحدة.

ومن ثم، فإن أي حل دائم للأزمة السورية يجب أن يشمل معالجة جذرية لقضية المقاتلين الأجانب، سواء عبر إعادتهم إلى دولهم أو محاكمتهم، مع ضرورة عدم استخدام هذا الملف ذريعةً لاستمرار العقوبات التي يعاني منها الشعب السوري.. فهل يتحقق ذلك؟

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock