رؤى

ثورة الاتصالات.. وتغير جدول الأعمال التاريخي

رغم أننا لسنا في حاجة إلى التأكيد على أن العالم الذي نحياه الآن، بصدد ثورة علمية وتقنية عارمة، وأنها سوف تُحدِث تغييرات حادة بمعدلات متسارعة، لم يشهدها المجتمع الإنساني من قبل، وذلك على جميع المستويات السياسية والاقتصادية، بل والثقافية أيضًا.. إلا أن ما نعتقد أننا في حاجة إليه، هو الاقتراب من التأثير الذي تمارسه هذه الثورة بشكل عام، و”ثورة الاتصالات” ـ في إطارها ـ بشكل خاص، على قائمة الأعمال، التي تُمثّل اهتمامات العالم المعاصر ومهامه.

وهنا، فإن “الجديد” الذي نعاصره، ويتبدى بوضوح على ساحة العلاقات الدولية، إنما يتعلق بـ “تغير جدول الأعمال التاريخي”، تحت تأثير تبدل الأوضاع الدولية، وما ساهم به هذا التغير في ظهور مشكلات وتحديات جديدة، لم تكن تعرفها المجتمعات في الفترة السابقة، أو على الأقل: أصبحت تحتل موقعًا متقدمًا، بعد أن كانت تشغل “ذيل القائمة” طوال النصف الثاني من القرن العشرين.

تغيُّر الاهتمامات

إذ، إن الموضوعات التي كانت قد سادت مرحلة ما بعد الحرب الأوروبية الثانية (1939 ـ 1945)، تمثلت في الحرب الباردة، الصراعات الإقليمية، سباق التسلح، ومحاولات ضبط هذا الأخير.. أي إن “المبادئ” التي سادت تلك المرحلة، أو لِنَقُل التي سادت “النظام الدولي”، الذي ولد على أنقاض هيروشيما، وانتهى بتصدع سور برلين، تمثلت في ثلاثة رئيسة: الردع النووي، كأداة نهائية وحاسمة لتنظيم العلاقة بين “الشرق” و”الغرب”؛ وتغلب العامل “السياسي ـ الاستراتيـﭽــي” على الضرورات الاقتصادية؛ وخضوع الصراعات الدائرة في “أطراف” الساحة العالمية إلى التنافس والصراع بين القطبين.

الآن، اختلف الوضع؛ حيث إن الموضوعات الراهنة، الجديدة، هي اقتصادية واجتماعية في الأساس. فأمور مثل: البطالة، التضخم، أسعار العملات، أسواق المال، حواجز وحوافز التجارة والاستثمار، مشكلات الاتصال العالمي، و”التماس” بين الثقافات، هي موضوعات اليوم. هذا بالإضافة إلى موضوعات أخرى، تزداد أهميتها باستمرار، مثل: التلوث الكوني، أمان البيئة، تنظيم الاتصالات، ومكافحة المخدرات والهجرة غير الشرعية والأمراض العابرة للقوميات، كالإيدز وانفلونزا الطيور والخنازير، وكوفيد 19 ومتحوراته.. إلخ. ناهيك، قطعًا، عن المحاولات الدءوبة التي تبذل، من جانب القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لـ “إحلال” مفهوم “الأمن العالمي”، محل المفهوم التقليدي لـ”الأمن القومي”.

ولعل الأمر الجدير بالانتباه، والتأمل، أن الأساس الذي تستند إليه كافة التفاعلات مع قائمة الأعمال (الجديدة) تلك، والموضوعات التي تتضمنها، إنما يتمثل في ما يمكن تسميته بـ”ديمقراطية السوق”.

بل، لا نغالي إذا قلنا: إن هذه الأخيرة قد أصبحت تمثل، من الآن فصاعدًا، “القالب” العالمي، أو “الإشكالية الشرعية” للنظام الدولي. وهو تحوّل يدعو ـ بحق ـ إلى الدهشة؛ فضلًا عن كونه يستحوذ على الاهتمام بسرعة انتشاره واتساع نطاقه. إذ، يكفي أن نلاحظ، كمثال، كيف أصبحت المطالبة بـ”اشتراكية مخططة من قبل حزب واحد”، أمرًا غير مشروع تمامًا، بل ويكاد أن يكون أمرًا غير طبيعي.

هذا، وإن كان يلمح إلى حقيقة “اللحظة العالمية” الراهنة؛ فإنه، يؤشر أيضا إلى أن ما تشتمل عليه هذه “اللحظة” ليس مجرد إضفاء الشرعية على “السوق” كـ”عقيدة موَجِهة” (أيديولوجيا)، وعلى ناتجها السياسي، أي الديمقراطية؛ وإنما محاولة في تبيان الارتباط العضوي بينهما، وذلك في اتجاه التأكيد على أن ثمة علاقة “دائرية” تقوم في ما بين السوق والديمقراطية والتنمية.

لابد هنا من الأخذ بعين الاعتبار أن حقيقة اللحظة العالمية تتمثل في ما تطرحه من “معيار”، يفرض نفسه في سياق “عقيدي موَجِه” وتقاني فريد.. طالما أنه لم يعد هناك بديل عالمي لـ”ديمقراطية السوق”، أو عقبات فنية يمكن أن تحول دون انتشارها على الصعيد العالمي. ومن ثم، لا تَكْمُن قوة هذه “اللحظة” في قدرتها على تحويل البشر إلى مزايا تلك “العقيدة” الجديدة، الشاملة والعالمية، بقدر ما تكمن في حملهم على تحديد موضعهم السياسي بالنسبة لها، طوعًا أو كرهًا.

إذ لنا أن نلاحظ كيف أن التنمية في إطار هذا المعيار؛ تصبح “غير واردة”، من الوجهة السياسية، دونما احترام “التعددية” على النحو اللائق، أيضا كيف أن الكثير من بلدان العالم أصبح يعتمد بصورة متزايدة على إعانات وقروض الدول الغربية والمؤسسات الدولية المانحة، التي ربطت استمرارية “التدفقات” الخارجية بموافقة النظم الحاكمة في تلك البلدان على التحرك في اتجاه الليبرالية الاقتصادية والسياسية، فيما أصبح يعرف بـ”المشروطية”، أو بالأحرى: “الاشتراطية” السياسية والاقتصادية.

مفهوم الاشتراطية

بناءً على ذلك، لنا أن نتساءل: في إطار هذه الوضعية، كيف يتسنى لنا تقييم الهوامش المتبقية لـ”استقلال” العوامل المجتمعية، خاصة السياسية والاقتصادية، على الأقل من منظور بلدان “الجنوب”؟!

وهو تساؤل مٌلح، بل ضروري، إذا لاحظنا أن هامش الحركة المتاح لهذه البلدان لا يتحدد نتيجة خياراتها الخاصة، بقدر ما يتحقق عبر استجابتها لبعض المواقف التي تفرض نفسها عليها (الحرب “الأمريكية” في كل من أفغانستان والعراق؛ وصولًا إلى الحرب الروسية في أوكرانيا.. مجرد أمثلة).

بل، تتبدى أهمية التساؤل أيضًا إذا تأملنا كيف أن مفهوم “الاشتراطية” قد امتد من الميدان الاقتصادي إلى الميدان السياسي؛ هذا المفهوم الذي يقضي بربط العائد من الموارد الاقتصادية الخارجية، ليس ببرنامج للإصلاحات الاقتصادية (برامج “الإصلاح الهيكلي”، التي يجرى تنفيذها منذ بداية الثمانينات)، تلك التي تستند إلى “قواعد السوق” فحسب؛ بل إضافة إلى ذلك، بوجوب احترام التعددية السياسية على نحو لائق كـ”حد أدنى”.

هذا المفهوم “الجديد”، مفهوم “الاشتراطية”، يتميز بفاعلية لا تُضارع: أولًا، لأن دلالاته السياسية تتواكب تمامًا مع “ديمقراطية السوق”، كـ”أساس” تستند إليه كافة التفاعلات مع الموضوعات المطروحة اليوم، أو قل: مع التغير الذي لحق بـ”جدول الأعمال التاريخي”. وثانيًا، لغياب بديل استراتيـﭽــي، أو اقتصادي، يمكن أن يتعارض مع المفهوم والسياسات التي تعمل في اتجاه تعميمه على الصعيد العالمي. أضف إلى هذا وذاك، من جانب ثالث، نتيجة ازدياد القيود على محور “شمال ـ جنوب”، حيث يبدو عدم التناظر بوضوح.

بعبارة أخرى، يتميز مفهوم “الاشتراطية” بفاعلية لا تُضارع، نتيجة الهجوم الكاسح الذي بدأت تقوم به ـ منذ تسعينات القرن الماضي ـ الدول الأقوى صناعيًا، دول “الشمال”، على بلدان “الجنوب”، لتجريدها تمامًا من إمكاناتها ومواردها وأسواقها، مهما كانت صغيرة أو ضئيلة؛ إنه الهجوم الذي تطمح به، ومن خلاله، تلك الدول إلى استكمال شروط الاندماج في دائرة الثورة العلمية والتقنية (الاندماج، بالمفهوم الذي يتضمن دلالات الجانب الاتصالاتي في هذه الثورة).

ولعل الأمثلة الدالة على هذا الهجوم تفيض عن حاجاتنا في الاستدلال.

يكفي أن نشير، كمثال، إلى الاندماج المتزايد بين استراتيـﭽـيات المنشآت والمشروعات الاقتصادية الرأسمالية المختلفة، وبين استراتيـﭽـات “الدول”. فالرأسمال يسير اليوم، في “الشمال”، كما في المرحلة الاستعمارية، في إطار حماية الدول، وبالتوافق والتفاهم معها.

يكفي أن نشير إلى النزوع لتوسيع الأسواق الرأسمالية عبر إنشاء التكتلات الاقتصادية “الدولية” وما يعبر عنه ذلك من إعادة تنظيم حقل الاقتصاد العالمي برمته. ومما له دلالة، في هذا الشأن، اكتمال “مثلث” إدارة هذا الاقتصاد، بإقامة منظمة التجارة العالمية، منذ 1 يناير 1995، كإضافة إلى كل من صندوق النقد والبنك الدوليين.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock