رؤى

مفهوم الحرية.. العروي وإشكالية الليبرالية

يُعد كتاب “مفهوم الحرية” للباحث والأكاديمي المغربي عبد الله العروي، أحد الأعمال الأساسية التي تندرج ضمن مشروعه الفكري، الليبرالي بالأساس، الذي يسعى إلى تحليل مجموعة من المفاهيم السياسية والفكرية في سياق المجتمعات العربية، مثل: الأيديولوجيا، الدولة، العقل، والحرية. في هذا الكتاب، يستعرض العروي مفهوم الحرية من مختلف الزوايا التاريخية والفكرية، رابطا بين تطور المفهوم في الغرب وبين تحدياته في العالم العربي. كما يقدم نقدا عميقا للظروف الاجتماعية والسياسية التي تُعيق تطبيق مفهوم الحرية في المجتمعات العربية.

يبدأ العروي كتابه بالحديث عن الحرية بوصفها قيمةً جوهرية في الفكر الإنساني وتطور الحضارات؛ مُشيرًا إلى أن مفهوم الحرية قد تطور عبر الزمن، وتحت تأثير الفلاسفة والمفكرين الذين حاولوا تقديم فهم خاص له وفقا للسياقات التي عاشوا فيها. ويُعتبر العروي أن الحرية هي الأساس الذي تقوم عليه الحضارات الحديثة، لكنها في المجتمعات العربية ما تزال تواجه العديد من العوائق، سواءً من خلال البنية الثقافية أو السياسية.

ويؤكد العروي أن الكتاب لا يتناول الحرية من منظور فلسفي بحت، بل هو محاولة لفهم العلاقة بين الحرية والتغيرات التاريخية والسياسية في العالم العربي؛ مُوضحا الفرق بين المفاهيم التقليدية للحرية، والمفهوم الليبرالي الحديث الذي أصبح أساسا للنظم الديمقراطية المعاصرة.

كما يضع العروي الحرية في قلب مشروعه الفكري للتحرر من الأيديولوجيات التقليدية الجامدة التي تعرقل التقدم في العالم العربي.

الحرية الليبرالية

يسلط العروي الضوء على مفهوم الحرية الليبرالية، التي تعتبر الأساس الذي نشأت عليه الليبرالية بوصفها فلسفةً سياسية واجتماعية في الغرب. ويرى أن الحرية الليبرالية ترتبط بفكرة “الفردانية”، حيث تتمحور حول حقوق الفرد في مواجهة الدولة والمجتمع. ومن هذا المنطلق، يشرح العروي كيف أن الليبرالية بُنيت على أسس فلسفية تعود إلى عصر التنوير، وهي تعتمد على فكرة أن الإنسان كائن عقلاني وقادر على تقرير مصيره بنفسه.

من جهة، يبدأ العروي باستعراض تاريخ الليبرالية كحركة فكرية وسياسية، بدأت في أوروبا في القرن السابع عشر. ويؤكد أن الليبرالية ارتبطت بفكرة الحرية الفردية، حيث كانت رد فعل على الحكم المطلق والسلطة الدينية، التي كانت تُسيطر على المجتمعات في تلك الفترة. كما يشير إلى أن الفكر الليبرالي قام على مبدأ أن الإنسان حر بطبيعته، وأن حقوقه الفردية غير قابلة للتصرف، مثل الحق في الحياة، والملكية، وحرية التعبير.

من جهة أخرى، يشدد العروي على أن جوهر الحرية الليبرالية يتمثل في الفردانية؛ حيث يرى إن الليبرالية تعتبر الفرد هو اللبنة الأساسية للمجتمع، وبالتالي يجب أن تُعطى الأولوية لحريته وحقوقه. هذه الفردانية كانت أساسا لفصل السلطات في النظام السياسي الليبرالي، حيث  تُحمى حرية الفرد من خلال القانون والمؤسسات الديمقراطية. ويوضح العروي أن هذه الفكرة كانت ثورية في أوروبا، لكنها تواجه صعوبات في العالم العربي، حيث ما تزال المجتمعات تفضل الهياكل التقليدية والجماعية.

من جهة أخيرة، من أبرز النقاط التي يناقشها العروي الصراع بين الحرية الفردية والسلطة، سواء كانت سلطة الدولة أو المجتمع؛ مُشيرا إلى أن الليبرالية تعتبر الحرية الفردية أساسا لأي نظام سياسي ناجح، لكن هذه الحرية يجب أن تُقيّد بالقانون لضمان عدم تعدي الأفراد على حريات الآخرين. هنا يشير إلى مفهوم “الحرية السلبية” و”الحرية الإيجابية”: الأولى، تعني عدم تدخل الدولة في شئون الأفراد؛ بينما الثانية، تعني تدخل الدولة لضمان تحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد. فماذا عن العالم العربي؟

يُناقش العروي كيف أن العالم العربي لم يتمكن بعد من استيعاب مفهوم الحرية الليبرالية بشكل كامل. وهو يُرجع ذلك إلى عدة عوامل تاريخية وثقافية، مثل التراث الديني والسلطة الأبوية القوية التي تعيق انتشار الفكر الليبرالي. ويؤكد العروي على أن تبني الليبرالية في العالم العربي يتطلب تغييرات جذرية في البنى الاجتماعية والسياسية، وهو أمر يتطلب وقتا وتحديات كبيرة.

اجتماعيات الحرية

يُقدم العروي دراسة عميقة للعوامل الاجتماعية التي تؤثر في تحقيق الحرية. وينطلق من فكرة أن الحرية ليست مجرد فكرة فلسفية أو سياسية، بل هي مفهوم مرتبط بالبنية الاجتماعية، وطبيعة العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع. يرى العروي أن المجتمعات الحديثة لا يمكن أن تنجح في تحقيق الحرية، إلا إذا كانت هذه الحرية مرتبطة بتغيير الهياكل الاجتماعية التي تقيد الأفراد.

من جانب، هناك مسألة الحرية والمجتمع؛ حيث يبدأ العروي بالحديث عن العلاقة بين الحرية والمجتمع؛ مُشيرا إلى أن الحرية ليست حقا مطلقا للفرد، بل هي مرتبطة بشكل وثيق بعلاقته مع الآخرين. في هذا السياق، يُقدم العروي تحليلًا للعلاقة بين الفرد والمجتمع في الفكر الليبرالي، حيث يرى إن الفرد لا يمكنه أن يكون حُرا حقا إلا إذا كانت هناك بيئة اجتماعية تتيح له ممارسة حريته. هذه البيئة تشمل مجموعة من القيم والأخلاقيات التي تُدعم الحرية وتحميها.

ومن جانب آخر، هناك مسألة العوامل الاجتماعية التي تعيق الحرية؛ إذ من النقاط الرئيسة التي يناقشها العروي هي كيف أن الهياكل الاجتماعية التقليدية، في المجتمعات العربية، تُعيق تحقيق الحرية. ويوضح أن النظام الأبوي والعلاقات التقليدية داخل الأسرة والمجتمع، تفرض قيودا على حرية الأفراد، خصوصا النساء والشباب. كما يُشير إلى أن الأيديولوجيات الدينية والسياسية التقليدية تلعب دورا كبيرا في تعزيز هذه القيود، ما يجعل من الصعب على الأفراد تحقيق حرياتهم.

ومن جانب أخير، هناك مسألة الحرية والمساواة؛ حيث يُقدم العروي تحليلا للعلاقة بين الحرية والمساواة، ويرى أن الحرية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا كانت هناك مساواة اجتماعية. يُشير العروي إلى أن المجتمعات التي تشهد تفاوتا كبيرا في الثروة والسلطة تظل غير قادرة على تحقيق الحرية الحقيقية لأفرادها. في هذا السياق، يُقدم نقدا للنظم الليبرالية الحديثة التي غالبا ما تتجاهل قضية المساواة، وتتركز على حماية حقوق الأفراد الأغنياء وأصحاب النفوذ.

الدولة والحرية

من أبرز النقاط التي يُناقشها العروي دور الدولة في تحقيق الحرية؛ ويُشير إلى أن الدولة يجب أن تكون أداة لتحقيق العدالة والمساواة بين الأفراد، وأن تكون قادرة على ضمان حقوق الأفراد وحمايتها. ومع ذلك، يُحذر العروي من تدخل الدولة المفرط في شئون الأفراد، حيث يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقويض حرياتهم. ويرى أن الدولة يجب أن تلعب دورا مزدوجا: حماية حقوق الأفراد، وفي الوقت نفسه ضمان ألا تتجاوز حريات الأفراد حقوق الآخرين.

ثم، ينتقل العروي إلى مناقشة العلاقة بين الحرية والعدالة الاجتماعية؛ حيث يرى إن الحرية لا يمكن أن تكون فعّالة إلا إذا كانت مصحوبة بتحقيق العدالة الاجتماعية. ويؤكد على أن تحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب تغييرات هيكلية في المجتمعات العربية، حيث يجب تعزيز المساواة بين الأفراد وضمان حصول الجميع على فرص متساوية. وكما يبدو، يعتقد العروي أن هذا التوازن بين الحرية والعدالة هو ما يُمكن أن يحقق استقرارا اجتماعيا حقيقيا في العالم العربي.

في هذا الإطار.. يختتم عبد الله العروي كتابه “مفهوم الحرية” بتأكيد أهمية الحرية بوصفها قيمةً أساسية في بناء المجتمعات الحديثة. ويُشير إلى أن المجتمعات العربية ما تزال بحاجة إلى مراجعة نقدية عميقة لتراثها الثقافي والاجتماعي من أجل تحقيق مفهوم الحرية بشكل حقيقي. ويرى العروي أن الحرية ليست مجرد فكرة نظرية، بل هي ممارسة اجتماعية تحتاج إلى توافر شروط سياسية واقتصادية وثقافية لتحقيقها.

وبالرغم من أننا نتفق مع العروي في هذه المقولة الأخيرة؛ إلا أننا نختلف معه – بالطبع نختلف – حول مسألة الحرية الليبرالية.. نحن، نعم، مع الحرية لكل إنسان، ولكن التساؤل هو: أي حرية؟ وهنا، نكتفي بأن ننقل من كتابنا “الليبرالية في الفكر العربي، 1992″، الصادر عن المجلس القومي للثقافة العربية بالرباط، هذه الفقرة: “لقد علمت الليبرالية الناس أن المجتمعات قابلة للتغيير، ولكنها لم تعلمهم مضمون وكيفية هذا التغيير. لقد علمتهم أن يتحرروا، ولكنها لم تعلمهم ماذا يفعلون بالحرية.. والأهم، الحرية لمن، وبمن؛ فهذه وغيرها تساؤلات تركها الفكر الليبرالي دون توضيح، حتى استغلها الأغنياء والقادرون، دون الضعفاء ماديا في المجتمعات”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock