رؤى

تسخير “الْجِبَالَ”.. مع “دَاوُود” عليه السلام

في البحث حول ملامح مفهوم “التسخير” في كتاب الله الكريم وصلنا -خلال الأحاديث السابقة- إلى أن مفهوم التسخير في القرآن، هو مفهوم رئيس (وردت مشتقات لفظ “سَخَّرَ” في القرآن الكريم 26 مرة)؛ يُحدد علاقة الإنسان بالأرض (الطبيعة).. يقول سبحانه: “أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ” [لقمان: 20].. ويقول تعالى: “وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [النحل: 12].

وإذا كانت “الأرض”، أو “الطبيعة”، هي مجال التدخل الإنساني وموضوع فعله؛ فإن في استعمال التنزيل الحكيم تعبير “السُخرة”، للدلالة على هذه العلاقة، ما يؤكد ـ بشكل قوي الدلالة ـ على أن الإنسان هو “القادر”، و”المسئول”، عن تغيير واقعه وتحقيق أهدافه.

ولعل قدرة الإنسان ومسئوليته عن تغيير واقعه وتحقيق أهدافه (إذ، مهما يكن التغيير الذي نريد أن نحدثه في الواقع، فهو إضافة ليست قابلة للتحقق تلقائيًا بدون عمل الإنسان)، هي أمور تتطلب “الإرادة الإنسانية.. الحرة”. ومن ثم، يرتبط مبدأ “التسخير” بالإرادة الإنسانية أشد الارتباط؛ بل والأهم إنه يرتبط بمسألة استخلاف الإنسان، الذي جعله سبحانه وتعالى “فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” [البقرة: 30] بما يمكن معه القول بأن مثل هذا الارتباط يُعد ملمحًا أساسيًا من ملامح التصور الإسلامي لـ”خلافة الإنسان” على الأرض من أجل تعميرها.

ولعل التأكيد على ذلك، هو ورود مصطلح سَخَّرَ، بتشديد حرف الخاء، في آيات التنزيل الحكيم، مرتبطًا بـ”مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، للدلالة على أن ما في الكون من موجودات ليست مستقلة عن الإنسان ووجوده؛ فهو -أي الكون- بكل “مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ”، لم يوجد إلا من أجل الإنسان.

فقد سخَّر الله سبحانه وتعالى لـ”الإنسان” كثيرًا من الظواهر الكونية؛ فقد سخَّر له الشمس والقمر، والليل والنهار، والفلك، والأنهار والبحار. وفي آيات التنزيل الحكيم ما يؤكد هذا التسخير، بل والارتباط بين “الخلق” و”التسخير”.

يقول سبحانه: “اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْأَنهَارَ٭ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ٭ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ” [إبراهيم: 32-34]

في هذا الإطار، فإن تسخير كل تلك الأشياء والظواهر الكونية، بما فيها المخلوقات من دون الإنسان، لا يتوقف عند حدود الانتفاع المادي فحسب؛ بل إن الغرض الأساس يتمثل في التطلع إلى الجانب المعنوي، الجانب الخاص بالعقيدة الإنسانية تجاه الخالق الأعظم: “مبدأ التوحيد”. فالتسخير، الذي هو مقدمة لأن يستطيع الإنسان إنجاز مهمته في إعمار الأرض، وتعميرها يقود إلى أن يتجاوز الإنسان الأفلاك والنجوم المُسخَّرة فوق الناس، إلى المُسَخِّر سبحانه وتعالى فوق عباده: “وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ” [الأنعام: 18].

إذا كنا، في البحث حول ملامح مفهوم “التسخير” في كتاب الله الكريم، قد وصلنا إلى أن أولى ملامح مفهوم “التسخير”، هي: “تذليل الشيء وجعله مضطردًا في حركته”؛ لذا واعتمادًا على ذلك، يُمكن تحديد مفهوم “التسخير”، كـ”سُنَّة إلهية”، في: “جريان الأشياء والظواهر على عادة مضطردة، بطريقة معروفة أو تمكن معرفتها”.

ولنا أن نشير -في هذا المجال- إلى أن التسخير بوصفه “حركة ذات هدف”، يتبدى من خلال روعة التصوير القرآني في ذِكْر “النعم”، التي سَخَّرَها سبحانه وتعالى لعباده؛ إذ تأتي النعمة الأكثر نفعًا لتتقدم على التالية لها قياسًا إلى منفعة الإنسان. ومن ثم تتقدم “الشَّمْسُ” -كمثال- على “الْقَمَرِ”.. لأن نعمة “الشَّمْسَ” أكثر نفعًا وأعم فضلًا من نعمة “الْقَمَرِ”؛ ويؤكد هذا اتساق الآيات مع بعضها البعض.

وهذه القاعدة القرآنية، يمكن الاعتماد عليها في محاولة تدبر نعمة التسخير الإلهي، التي أتاها الله سبحانه وتعالى، كـ”فضل” منه سبحانه، لأنبيائه “دَاوُودَ” و”سُلَيْمَانَ”. وسوف نُخصص الحديث، هنا، لـ”دَاوُودَ”، على أن يكون الحديث القادم عن “سُلَيْمَانَ” عليه السلام.

بالنسبة إلى نبي الله داوود، يقول سبحانه وتعالى: “اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ٭ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ” [ص: 17-18]؛ وكما تُشير الآية، فإن تسخير الجبال مع داوود عليه السلام، بوصفها “حركة ذات هدف”، إنما يأتي لأجل أن “يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ”، بما يعني أن الكيفية التي سُخّرت بها الجبال تتمثل في “التسبيح” أو بمعنى آخر، أن هدف تسخير الجبال هو “التسبيح”، كـ”مصطلح” له دلالات مفهومية مُحددة في آيات التنزيل الحكيم (وهو مصطلح له حلقات خاصة به).

وهنا وفي إطار الحديث عن “التسخير” تتوجب الإشارة إلى أن تسخير الجبال مع داود عليه السلام، وإن كان يأتي كـ”فضل” من الله عزَّ وجل لهذا النبي؛ إلا أن تسبيح هذه الجبال، في الوقت نفسه، يأتي ضمن إطار “وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ”، وذلك في قوله سبحانه: “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا” [الإسراء: 44]. بيد أن الإضافة، في هذا المجال، هي “التسخير الإلهي للجبال مع داوود”، كـ”نعمة” إلهية لهذا النبي، كما في قوله تعالى: “إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ” [ص: 18].

أما من جهة أن تسخير الجبال، مع داود عليه السلام، يأتي كـ”فضل” إلهي لهذا النبي، فيتأكد عبر قوله عزَّ وجل: “وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ” [سبأ: 10]. ولنا أن نلاحظ، أن تسخير الجبال “فَضْلًا” أتاه الله سبحانه وتعالى إلى داوود، مُضافًا إلى “الطَّيْرَ” وإلانة “الْحَدِيدَ” (جعله لينًا)؛ وأن تسخير الجبال، أيضًا، يأتي من خلال الأمر الإلهي “يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ”.

ولنا أن نلاحظ، أيضًا، أن داوود جعله الله سبحانه وتعالى “خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ”، وهي صفة لم تأت على طول آيات التنزيل الحكيم، إلا مع آدم عليه السلام. بخصوص آدم، يقول الحق سبحانه: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…” [البقرة: 30]؛ أما في ما يتعلق بالنبي داوود، يقول الحق تعالى: “يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ…” [ص: 26].

وكذلك، لنا أن نلاحظ، أن “النعم” التي أتاها الله سبحانه وتعالى لنبيه داوود، لم تتوقف عند حدود تسخير الجبال؛ ولكن، أتاه الله أكثر من ذلك، فقد سخر “الْجِبَالَ مَعَهُ… وَالطَّيْرَ…”، وشدد “مُلْكَهُ”، وأتاه “الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ”.. وهو ما يتضح من خلال السياق الذي وردت فيه الآية موضوع حديثنا، هنا؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: “اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ٭ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ٭ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ٭ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ” [ص: 17-20].

بل، إن “النعم” الإلهية وصلت إلى تعليم داوود عليه السلام “صَنْعَةَ لَبُوسٍ”؛ وذلك كا في قوله سبحانه: “فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ٭ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ” [الأنبياء: 79-80].

هذا، عن نبي الله “دَاوُودَ” وتسخير “الْجِبَالَ مَعَهُ” فماذا، إذن عن نبي الله “سُلَيْمَانَ” عليه السلام، وتسخير “الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ”؟

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock