تعلمت نبوية موسي ولكن ليس مثلنا نحن النساء اللائي جئن بعدها بأجيال، فقد كان الطريق أمامنا معبدا ممهدا مفروشا بحرير تضحيات ونضال أمثالها من الرائدات الأوائل.
رغم أنها كانت ابنة ضابط في الجيش المصري تنتمي لأسرة ميسورة الحال تمتلك 50 فدانا في الريف الخصب إلا أن أمها لم تلحقها بالمدرسة وفقا للتقاليد السائدة وقتها في نهاية القرن التاسع عشر، وبينما كان شقيقها الوحيد الذي يكبرها بعشر سنوات يتقدم في دراسته متفوقا كان المسموح به للطفلة نبوية هو اللعب مع البنات في القرية.
ظهرت شخصيتها القيادية مبكرا في تلك الفترة، وأثناء اللعب كانت تجمع البنات وتكلفهم ببناء دار ريفي صغير من الطين ثم تمثال لفلاح وفلاحة هم سكان الدار ومجسمات للحيوانات التي يستخدمونها. كانت البنات يقدمن لها طاعة كاملة ويخضعن لأوامرها وظل الأمر هكذا طيلة حياتها، فموهبتها الخاصة التي وهبت لها نفسها وحياتها قيادة البنات تربية وتعليما.
توفي والدها قبيل ولادتها بشهرين فربتها أمها بحنان وتسامح تعاطفا مع يتمها المبكر مما أعطاها الفرصة لتقوي إرادتها الذاتية وتزداد ثقتها بقدرتها علي اتخاذ القرار الصائب بنفسها وتلك الصفات أيضا لازمتها طيلة حياتها.
كانت طفلة السادسة تجلس مع أخيها طالب الثانوي أثناء حفظه لقصائد الشعر المقررة عليه في المدرسة فتحفظها تماما لدرجة أنها كانت تمسك بالكتاب وتسمعها له وتصحح له الأخطاء رغم جهلها بالقراءة والحروف. صارت القراءة والشعر شغفها الجديد فكانت تسمع القصائد وهي تمر بأصبعها علي الحروف. يوما من الأيام أثناء زيارتها لإحدى قريباتها وجدت لديها قصة استطاعت قراءة عنوانها ثم فرت صفحاتها فاكتشفت أنها صارت تجيد القراءة حتي للكلمات المجهولة وليس فقط ما تحفظه، أخذتها النشوة بهذا الاكتشاف وظلت ساهرة طول الليل تقرأ القصة ولم تكف من يومها عن القراءة.
قرأت القرآن الكريم وحفظت منه الكثير ثم قرأت ألف ليلة وليلة وكل الكتب الموجودة في مكتبة أسرتها، وهكذا علمت نفسها تعليما ذاتيا.
تعلمت أيضا الحساب وبعض كلمات اللغة الإنجليزية، وحين بلغت الثالثة عشرة من عمرها اتخذت أهم قرار في حياتها، الالتحاق بالمدرسة. كانت تعرف أن أمها سترفض خوفا وشفقة عليها من كلام الناس الذي يتهم البنت التي تتجه للتعليم بالخروج عن الآداب والتقاليد، خاصة بعد نصيحة عمها للأم حين استشارته: علموهن الغزل ولا تعلموهن الخط، قدمت هي لنفسها في مدرسة السنيه وهي أشهر مدرسة للبنات وقتها في أول القرن العشرين عام 1901.
باعت سوارها الذهبي لتدفع المصروفات التي كانت وقتها مبلغا كبيرا 250 قرشا، ودخلت امتحان الالتحاق بالمدرسة لتحديد مستواها. تعجب منها الممتحنون فهي تقرأ أصعب قصائد الشعر العربي ببراعة تفوق مثيلاتها ولكن كتابتها في الإملاء كطفلة لم تعتد الإمساك بالقلم، الخط لا تكتبه طالبة تتعلم الكتابة ورغم الصعوبات الكثيرة نجحت في الالتحاق بالمدرسة.
شكلت اللغة الإنجليزية عائقا أمام الطالبة المستجدة، لكنها عقدت صفقة مع بنات فصلها أن تساعدهن في اللغة العربية ويساعدنها في اللغة الإنجليزية وقد كان.
في عام 1903 حصلت 4 فتيات في مصر كلها علي الشهادة الابتدائية، كانت نبوية موسى العصامية المجتهدة إحداهن وكان من زميلاتها ملك حفني ناصف (باحثة البادية) وفيكتوريا عوض، ودخل معها مدرسة المعلمات بعد ذلك أربع طالبات هن عائشة صبحي التي لم تكمل تعليمها رغم نبوغها وصارت صاحبة العصمة حرم إسماعيل باشا رمزي، وبهية حسونة ونور حسن وأديل دياب، وتخرجت الطالبات الأربع بنجاح وحصلن علي دبلوم المعلمات وعملن بالتدريس عام 1906.
رغم ما عرف عن نبوية موسي من تشدد وحدة طبع لرغبتها في إثبات ذاتها وتأكيد احترامها في بيئة غير مواتية، إلا أنها كانت تقدر وبشدة كل من يحسن عمله وتري فيه إخلاصا واجتهادا، لذلك فهي تثني كثيرا علي معلمتها مس كارتر التي جعلتهن يتحدثن ويكتبن ويقرأن الإنجليزية كأهلها، وتقول عنها أنها استمرت 38 عاما في خدمة تعليم البنات في مصر بإخلاص ونشاط قلما يوجدان في غيرها.
بعد تعيينها معلمة في مدرسة عباس الأميرية بمرتب ستة جنيهات قررت الارتقاء بتعليمها فدخلت امتحان البكالوريا كأول فتاة مصرية تحاول الحصول علي تلك الشهادة، كان هذا الحدث جديدا وأثار لغطا بين موافق ومعارض لكنها نجحت في الحصول علي البكالوريا عام 1907 وكان الخبر عنوانًا رئيسيًا في الصحف وقتها: أول ناجحة من المصريات في البكالوريا، مصرية تفوز بنيل شهادة البكالوريا، تفوق المصريات. تقول نبوية موسى: لو أني إذ ذاك كنت قد فتحت فرنسا لما كان لاسمي رنة أشد مما كان إثر نيل تلك الشهادة العظيمة.
وهبت نبوية موسي نفسها للقضية التي آمنت بها وهى تعليم الفتيات وتربيتهن فاتخذت قرارا حاسما وألزمت نفسها به برفض الزواج مطلقا للتفرغ تفرغا كاملا لقضيتها، ورغم بعض المحاولات لإقناعها وضغوط أهلها إلا أنها كانت كعادتها حاسمة فلم تتزوج أو تدخل في مشروع زواج أبدا.
لم تكن معلمة تقليدية فكانت تبسط المناهج بشرحها الخاص وتتأكد من وصول البنات للفهم الكامل والاستيعاب، وحين صارت ناظرة مدرسة كانت تشرف علي تربية البنات بملاحظة سلوكهن وتقويمه ولفت نظرهن للاهتمام بصحتهن ونظافتهن الشخصية وكانت تحل مشكلاتهن العائلية. جاءت ناظرة انجليزية بعدها فسألتها لماذا لا يوجد طبيب ولا ضابطة ولا أخصائية اجتماعية ولا معلمة تدبير منزلي؟ فردت: كنت أقوم بكل تلك الأدوار بنفسي.
نعم كانت تؤديها بنجاح وكانت تلميذاتها دائما الأوائل وكان الأب يفخر بابنته حين يتقدم لها عريس: ابنتي تربية نبوية موسي.
كانت سطوتها علي البنات غريبة وتقول هي عن نفسها: تقول كتب التربية إن المعلم يجب أن يكون ملء السمع والبصر طولا وعرضا ولم أكن كذلك فأنا قصيرة نحيفة ضعيفة البصر لكن لم أكن فقط أسيطر علي البنات بل كانت الفتاة تعتقد أنني أقرأ ما في داخلها بمجرد النظر.
كتبت عن قضية التعليم وإصلاحه في جميع الصحف والمجلات المصرية وتم تنفيذ بعض مقترحاتها خاصة حين كان سعد باشا زغلول وزيرا للمعارف وكان يثني عليها كثيرا كمصرية تفوقت علي الإنجليزيات في مجال التربية والتعليم.
كذلك محمد محمود باشا كان مقتنعا بها نموذجا وقدوة وطلب منها بشكل شخصي إدارة مدرسته التي أنشأها في الفيوم حين كان مدير إدارة مديرية الفيوم ونجحت في ذلك.
زارها يوما مستر دانلوب مستشار وزارة المعارف وهي تدرس فاستمرت في درسها دون أن تلتفت إليه وظلت التلميذات مشدودات إليها فأعجبته قوتها في حفظ النظام وناقشها نقاشا طويلا قال بعده لناظرة المدرسة: الحق أنني لم أر معلما في قوة منطقها.
رحم الله نبوية موسي، فهي لم ترزق أبناء ولم تتزوج لكنها ربت مئات البنات كأحسن ما تكون التربية والتعليم، ومهدت طريقا كان مغلقا لتعليم البنات واستقلالهن الشخصي استفاد منه الملايين بعدها، وكحال كل الرواد لم تستفد استفادة كاملة في حياتها فقد ضحت بمالها وميراثها ودخلت في صراع من أجل إرساء ما تؤمن به كلفها الكثير لكنها حفرت اسمها بحروف من نور وإن لم تكن قد نالت حظها من التقدير حتي اليوم.