“أليست هناك لحظات أو سياقات قد يكون فيها النداء الشعبوي الموجه لحشد الشعب ضد النخب الفاسدة أو المتعفنة منطقيًا, بل ويمكن أن يكون إنقاذا للديمقراطية من نفسها؟ سيمون تورمي، أستاذ النظرية السياسية جامعة سيدني.
من المستحيل متابعة أخبار التطورات السياسية الأخيرة في العديد من بلدان العالم دون الإشارة إلى صعود “الشعبوية”، ذلك المصطلح الذي كانت الإشارة إليه لا تتكرر كثيرا حتى زمن ليس بالبعيد وكان يشير إلى حفنة بسيطة من الأحزاب في سياقات سياسية غير مترابطة، لكن الآن تبدو الشعبوية مهيمنة بالتأكيد على اللحظة السياسية الراهنة.
يثير صعود الشعبوية مجموعة واسعة من الردود من المتخصصين وعلماء السياسية، رد الفعل الأكثر شيوعا هو الانتفاض ضد ظهور تلك القوى الشعبية الصاعدة التي يرونها تهدد الديمقراطية، فصعود القوى السياسية المتطرفة في أقصى اليسار واليمين يبدو وكأنه يعيدنا ثانية إلى ثلاثينيات القرن العشرين، وينظر إلينا بسخرية شديدة.
من ناحية أخرى، ثمة خبراء وعلماء سياسة وشخصيات نافذة ترى أنه لا يوجد ما ينبغي الخوف منه حيال الشعوبية, فهي بنظرهم تعمل على جذب الشعوب، ما يعني أنها لا تتوافق مع الديمقراطية فحسب، بل مع أي سياسات تسعى إلى جاذبية عالمية. فالأحزاب السياسية تسعى بداهة إلى السلطة، وبالتالي فإنها تتوق إلى الجاذبية الواسعة بل العالمية، لذا لا يعد صعود الشعوبية طبقا لوجهة النظر تلك تجاوزا لـ”منطق السياسة”، بافتراض أن السياسة هي ما يشغل الرأي العام, وبالتالي فإن أي سياسة تفتقر إلى الشعبية محكوم عليها بالفشل.
سم أم دواء
وفيما ينظر البعض إلى الشعبوية باعتبارها خطرا يهدد الديمقراطية، يراها آخرون تعبيرا تعويضيا واحتفائيا بالديمقراطية. السؤال هو: أي هذين الرأيين هو الأقرب إلى الحقيقة بشأن الشعوبية؟ في تحليل لمقال لأفلاطون في كتابه الشهير “فيدروس” يستكشف الفليسوف الفرنسي جاك دريدا مفهوم الصيدلة “pharmakon” كمثال لمصطلح يحمل معان متناقضة، فالصيدلة أو علم الدواء في أصوله اللاتينية يشير إلى مواد قد تكون سامة لكنها تستخدم في جعل شخص ما أفضل، لكنها قد تقتله أيضًا. وعليه، فإن السم والعلاج مرتبطان بشكل و ثيق ولا يمكن أن نشير إلى أحدهما دون الآخر، الفيصل هنا هو الجرعة والسياق وقابلية الجسد للعقار المستخدم، وما إلى ذلك. لذا فإن مصطلح “pharmakon” تعبير عن الخطر الداهم و العلاج، الحياة والموت، في آن معا.
لو طبقنا ذلك على نظرتنا إلى الشعبوية، هل هي حقا تهديد للديمقراطية في أي وقت وفي كل مكان؟ وهل تناقض الديمقراطية تماما وتهددها وينبغي الخشية منها؟ أليست هناك لحظات أو سياقات قد يكون فيها حشد الشعب ضد النخب الفاسدة أو العفنة منطقيًا؟ بل ويمكن أن يكون إنقاذا للديمقراطية من نفسها؟.
وعلى النقيض، هل نحن مقتنعون حقاً بأن حشد الشعب ومحاولة جذبه بوسائل شعبوية هو سمة ضرورية وبناءة للسياسة، وقد يكون أمرا يتعذر تجنبه أحيانا؟ ألا يمكن القول إن الاحتفاء بالشعبوية ضد النخب الفاسدة قد يكون إيجابيا في بعض الأحيان، وأن تقييمنا للظاهرة ينبغي أن يأخذ في الاعتبار موقف المراقب أو المشارك في الاختيار بين دوامة من الخيارات السياسية؟.
أفول الكاريزما
في عام 2011 تدفق ملايين المواطنين في إسبانيا استجابة لخطاب شعبوي مدفوعا بانهيار شبه كامل في الإيمان بالنخب السياسية, التي كانت تدعو الشعب إلى التقشف، فيما تستمتع هي بأعلى درجات الرفاهية في القصر الرئاسي، ناهيك عن الفساد و المحسوبية والتبذير الاستثنائي للمال العام على مشاريع عديمة الفائدة بدت وكأنها تحك أنوف الناس العاديين في غبار عجزهم. لذا، بدا ظهور حركة “بوديموس” الشعوبية ورسالتها القوية تحت شعار “نعم نستطيع”، وكأنه إنذار للآخرين يبعث على الخوف من “الكاريزما” والنخبة السياسة المتمحورة حول القيادة، لكن بعد الانتصار تم الاستغناء عن المتظاهرين في الشوارع وبيعهم وكأن الشعب غير ذي صلة بالموضوع. فالاحتفاء بالشعوبية “من أسفل” يحمل أيضا مخاطر المشاكل المترتبة على خيارات الشعبوية، وليس أقلها التخلص من عبء ذلك “الأسفل” والتضحية بالجموع التي أتت بمن يمثلونها, في غمار الانتصارات السياسية لقيادات الشعبوية.
من الضروري هنا أيضا أن نتأمل صعود إيمانويل ماكرون من فرنسا، واعتباره المنقذ “الوسطي” للمشروع الأوروبي، من خطر اليمين الشعبوي بقيادة مارين لوبان، تم ذلك بمناورة شعبوية أنيقة من ماكرون الذي فهم اللعبة الشعبوية وأدارها بذكاء شديد. وفيما كانت لوبان من بين “الطفيلين” الذين يعيشون خارج النظام ويكفرون بالنخبة، قدم ماكرون نفسه كشخصية غير ملوثة بالارتباط بالنظام السياسي الفاشل، تسعى أن تجسد مستقبل فرنسا مقابل لوبان الأقرب إلى الماضي المظلم. لم تكن المعركة بين الخصمين اللدودين معركة ملكية بقدر ما كانت حربا في سبيل إنقاذ الجمهورية الفرنسية. لكن ألا يعترينا القلق أن يأتي كل هذا الحديث عن الخارجين عن النظام والنخب الفاسدة من شخص مثل ماكرون جمع الملايين كمصرفي متنفذ في روتشيلد؟ وكم من الوقت يلزم قبل أن يتصادم هذا الخطاب الخارجي مع واقع تخفيضات الميزانية واصلاحات سوق العمل؟
أمل وخوف
وفي ضوء الممارسة السياسة المعاصرة لإعادة تشكيل الديمقراطية بعد انهيار المنظومة التي تمثلها بعد أن نجحت في الصمود على مدى قرنين على الأقل, أصبح الكثير منا أقل ميلا للاعتقاد بالنوايا الحسنة للنخب السياسية الحاكمة، وأقرب إلى الشعبوية بمعنى رؤية النخب على أنها منفصلة أو غير مرتبطة بالناس، وبتنا نميل إلى قبول تصديق خطاب أولئك الذين وضعوا أنفسهم كمدافعين عن الناس ضد النخب، بغض النظر عن مدى عقلانية هذا كبديل لمنظومة الديمقراطية التي تفرز تلك النخب، لنقع في النهاية أسرى إيماءات غير منطقية تنصب ملياردير شعبوي مثل ترامب كمدافع عن الشعب ضد النخبة.
ثمة حالة أقرب إلى عدم اليقين مما ينبغي أن يحمل “الشفاء” للديمقراطية المعاصرة: هل يكمن في انتخاب خارجين عن النخب السياسية التقليدية من أمثال دونالد ترامب، جيريمي كوربين، جيرت فيلدرز، أم تبني الإستراتيجية “غير التمثيلية” أو “ما بعد التمثيلية” بأمل اختصار المسافة بين الشعب والسلطة السياسية. لسنا متأكدين مما إذا كان الغريب الآتي من الخارج سينجح ويجعل الحياة أفضل، أم ستفضي تلك الخيارات إلى إرداء السياسة و الديمقراطية قتلى. ورغم أن عدم التوصل إلى إجابة حاسمة يترك عالمنا في حالة يرثى لها، إلا أننا ربما كنا أحوج إلى التجريب حيث أن اليقينيات التي حافظت على مجريات السياسة خلال القرنين الأخيرين تتلاشى, ولا مفر أمامنا سوى أن نرقب السم يسري في جسد الديمقراطية المريضة بمزيج من الأمل والخوف.