صدر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة كتاب” النص المسرحي بين اللغة والميتالغة” للدكتورة ألفت شافع استاذ النقد المساعد بآداب إسكندرية، الكتاب رحلة تاريخية تمتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام تستعرض ما اعتري النص المسرحي من تغيرات وتطورات، في تناول – فيما اعتقد – لم يسبق إليه أحد بهذا القدر من التفصيل والكشف التدريجي والدقيق لتحولات النص المسرحي من حيث مكوناته وجوانبه التاريخية والمعرفية ، وكذا من حيث علاقة النص بكافة جوانب العملية المسرحية.
الكتاب الذي يقع في حوالي خمسمائة صفحة من القطع الكبير ينقسم الي خمسة فصول ولائحة تعريفات وثبت بأهم المراجع والمصطلحات وأسماء الأعلام، مع مقدمة بقلم الدكتورة صوفيا عباس استاذ النقد والرئيس السابق لقسم الدراسات المسرحية بآداب الإسكندرية.
في لائحة التعريفات تتناول المؤلفة بالشرح والتحليل أربعة مصطلحات أساسية في الكتاب، لكي تحدد لنا تلك القصدية التي تتناول بها تلك المصطلحات المحورية في البحث، وهي 1- اللغة، 2- الكلام، 3-الميتالغة، 4- النص المسرحي. وفي المصطلحين الأول والثاني كان هناك ضرورة لكشف التمييز بينهما، ولدور كل منهما في الأدب عموما والمسرح بصفة خاصة، بينما كان المصطلح الثالث ” الميتالغة” أهم مصطلحات لائحة التعريفات، وتقصد منه ( كل العناصر غير المكتوبة نفيا للنص، فكل ما هو غير نص أطلقت عليه” ميتالغة” ونقصد ما بعد وليس ما قبل، لأننا نتحدث عن مسرح ينفي اللغة ويليها زمنيا، ص 35. وكان النص المسرحي هو أخر مصطلحات لائحة التعريفات، مشيرة الي التمييز بين النص القرائي والنص الكتابي، وكشف الصلة بين النص وعناصر العملية المسرحية، خاصة الإخراج.
في الفصل الأول “التطور التاريخي للنص المسرحي” تقدم المؤلفة مسحا شاملا لتطور النص منذ إشكالية البحث في وجود مسرح فرعوني، وهي قضية شغلت الباحثين كثيرا حتي منتصف القرن العشرين الميلادي. وفي خضم تلك الرحلة ترصد بدقة المتغيرات التي طرأت علي النص المسرحي وسمات وخصائص كل مرحلة تاريخية.
اشتباكات النص الأخري، ذات الأطر العملية والنظرية، تناولها الفصل الثاني “بنية النص ونظريات التفاعل” مستعرضا أنواع النص المسرحي، وعلاقة النص بأطراف العملية المسرحية كعلاقة النص بالمؤلف والممثل والمخرج والناقد والجمهور، وكذا علاقة النص بعناصر العملية المسرحية، كالسينوغرافيا والديكور والموسيقي والإضاءة والماكياج والملابس والميزنسين. واستعرضت المؤلفة بقدر من التفصيل أيضا النص المسرحي بين المذاهب الأدبية، أي كيف نظرت تلك المذاهب للنص وكيف تناولته وتفاعلت معه وقدمت رؤيتها للإبداع من خلاله؟ فعرضت أولا لتعريف المذهب الأدبي، ثم قدمت شرحا تفصيليا للنص الكلاسيكي والنص الرومانتيكي والنص الاجتماعي كما رآه المذهب الطبيعي والنص الواقعي والنص من منظور الرمزية والمستقبلية والعديمة والتعبيرية والسريالية.
في الفصل الثالث تقدم المؤلفة تمهيدا نظريا وفلسفيا لأصول مسرح الميتالغة، ذلك المسرح الذي انشغل بنفي الكلمة، وتجاهل النص المكتوب، والاستناد الي الحركة كعنصر أساسي وحاسم في تقديم مسرح جديد، وبالطبع كان لابد لهذا المسرح أن يتخذ من بعض النظريات التي تنفي النص مرجعية لها، هنا تنطلق المؤلفة من استعراض نظريات الحداثة، تلك التي دعمت مسرح الكلمة، لكي تكشف عن التحولات الفلسفية التي أدت الي ضرب سلطة النص. وفي نظريات الحداثة تقدم عرضا موجزا لتطور الحداثة الغربية، حيث النص والمؤلف والناقد هم عماد المسرح الحديث، ثم مع بروز الدراسات اللسانية أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بدأت تتبلور مدارس نقدية تفكك أضلاع ذلك المثلث، فتم التشكيك في دلالات النص ونسبه الي مؤلفه، فالعقل كما يذهب نيتشه وبيركلي ليس سوي سجن للإنسان، ومن العقل او اللوغوس بدأ ضرب النص، خاصة النص المسرحي، باعتباره ليس جوهريا في العمل المسرحي بصفة عامة.
وبعد قدر معقول من البحث في العقل الغربي تنتقل المؤلفة الي سؤال مهم: كيف تفاعل العقل العربي مع تلك المعطيات الجديدة التي قدمتها الفلسفة الغربية لضرب سلطة النص؟ تقول المؤلفة: لقد تبنينا النتائج النهائية للحداثة الغربية دون أن نعيش مقدماتها، وتلك هي أزمتنا الحقيقية مع الحداثة، ص 257، لافتة إلى أن العلاقة بين العقل العربي والحداثة الغربية لا تزال تمثل إشكالية كبري في عالمنا العربي الآن. بعدها تنتقل المؤلفة من البحث في الحداثة إلى طرح وجهة نظرها في النظريات الأدبية التقدمية حيث تتناول الشكلانية الروسية ودورها في التركيز علي علاقة النص بالمحيط الاجتماعي والاقتصادي، ورؤيتها للعنصر المهيمن وإماطة اللثام والتغريب، إضافة الي كونها أول من أشار الي ضرورة إعادة النظر في العلاقة الثنائية التاريخية بين اللغة والكلام، ص 267.
ثم تنتقل المؤلفة الي النظرية الماركسية في الأدب، ودور ماركس في وضع أسس النقد الأدبي الماركسي وظهور الواقعية الاشتراكية وتركيزها علي الشعبية والتقدمية وأهمية الانحياز الطبقي في التناول الأدبي. وتستعرض المؤلفة دارستين نموذجيتين لنقد الواقعي من نظرية الانعكاس عند جورج لوكاتش واللا أرسطية البريختية.
كارل ماركس
ومن البحث في الحداثة والنقد الماركسي تنتقل المؤلفة إلى أهم النظريات النقدية المعاصرة “البنيوية”، مستعرضة تعريفها وما تمثله في الفكر الفلسفي والنقد الأدبي المعاصر وسماتها الثلاثة “الكلية – التحويلات – التنظيم الذاتي”، ثم تتناول المنهج البنيوي وإشكالاته الرئيسة. تعرض المؤلفة بعد ذلك لفلسفة اللغة عند دي سوسير ووصفه للغة أنها نظام من الإشارات Signs، وهذه الإشارات هي أصوات تصدر عن الإنسان، ولا تكون بذات قيمة إلا إذا كان صدورها للتعبير عن فكرة او لتوصيلها، ص 281، بعدها تنتقل إلى رولان بارت وما اعتقده من تصورات لعبت دورا مهما في الانتهاء بمقولة “موت المؤلف”، إذ رأي بارت أن النص أشبه بالاحتفال اللغوي الذي تكون اللغة أثناءه في إجازة من أعبائها اليومية العادية، ص 289.
ومن البنيوية إلى التفكيكة تواصل المؤلفة استعراض رحلة ضرب سلطة النص، فتشير إلى ماهية التفكيكية وأعلامها وتصوراتها عن الأدب والكتابة والتأليف ودورها المحوري في نظريات النقد الأدبي (جوهر التفكيك هو غياب المركز الثابت للنص، إذ لا توجد نقطة ارتكاز ثابتة يمكن الانطلاق منها لتقديم تفسير معتمد أو قراءة موثوق بها، ص 295. إن كسر هيمنة اللوغوس (العقل او الكلمة)تفترض عمليتي هدم وبناء مستمرتين، فكل بناء لغوي قائم هو بناء قابل للهدم والبناء دائما.
ثم تناولت المؤلفة أفكار مفكر التفكيك جاك دريدا وموقفه من مراجعة مفاهيم الدلالة والحضور والتمثيل ..الخ، وبذلك تضع القارئ أمام الأصول الفلسفية واللغوية لمسرح الميتالغة الذي سيكون مثار حديثها في الفصل الرابع ” مسرح الميتالغة : أصوله، أنواعه، وسماته” وفيه تستعرض بقدر من التحليل إشكالية مصطلح الميتالغة “فنيا” من حيث انه المسرح الذي يحصر دور الممثل في تنمية أدائه الحركي بصورة مكثفة، مستغنيا عن أداته الصوتية ليصل الي الشكل الطقسي الذي تتخذ فيه الحركة جميع الدلالات السمعية والبصرية، ص314، 315.
بعدها تستعرض رحلة مسرح الميتالغة تاريخيا، فالبدايات الأولي جاءت من فنون الرقص البدائي التي كانت تتم لاعتبارات دينية أو ترفيهية، وكذا فنون المايم والبانتومايم، ثم ظهور المسرح المعتمد علي حركة الجسد في العصر الحديث، في محاولة تجريبية حاولت تجاوز هيمنة النص علي المسرح. كما تناولت الدور الذي لعبه مسرح المخرج، مثل مسرح الفرد جاري وارتو. وفي رصد هو الأول من نوعه قدمت المؤلفة عرضا موجزا حاول استيعاب كافة صور وأنواع مسرح الميتالغة ( المسرح الطقسي – المسرح الراقص- المسرح اللا لفظي – المسرح الحركي او التعبير الجسدي – المسرح الصامت او المايمي الحديث – مسرح السرد البصري – مسرح ما بعد الحداثة) مع شرح وتحليل لكل نوع من هذه الأنواع. ومن هذا التنوع تنتقل الي سمات مسرح الميتالغة الذي تلخصه في مركزية الحركة بدلا من مركزية الكلمة، وكل ما يترتب علي هذا التحول من مفاهيم، ص 389.
الفرد جاري، وأرتو
في الفصل الخامس “النظرية التكاملية في العملية المسرحية” تحاول المؤلفة أن تعقد مصالحة تاريخية بين اتجاهين بدا أنهما متضادان، وتذهب في المسار إلى الإقرار بأن وجود هذين النوعين لا يمكن إنكاره، ومن ثم تضع عدة تصورات عن النص المسرحي والوجود، أي ما الذي قدمه النص المسرحي للمسرح، وعن النص المسرحي والعدم، أي ما هي النتائج المترتبة علي غياب النص من علي خشبة المسرح؟ ثم تصل الي نتيجة عامة تحت عنوان”النظرية التكاملية .. رؤية عربية” تذهب فيها بعد مناقشة سبل نهوض المسرح العربي إلى أن المسرح بحاجة الي كل الجهود بشرط ألا ينفي اتجاه الاتجاه الأخر، فالنص هو عماد التجربة المسرحية بشكل عام، وفكرة الاختزال والإقصاء والعنف الذي يمارسه أنصار الميتالغة هي فكرة جديدة على فن المسرح عبر تاريخه، وهذا راجع بالأساس إلى منطق العولمة الغربية التي تتعامل بنفس الحدة مع ثقافات الشعوب الأخرى، وبناء عليه تخلص في نظريتها الكلية إلى كلية اللغة المسرحية دون إقصاء أو تمييز إلا بحسب اشتراطات الإبداع وتوجهاته وأهدافه، ص 445.
وتنتهي رحلتنا مع هذا الكتاب الشيق الممتد بطول التاريخ الإنساني عند عدة نقاط أساسية من أهمها أن النص المسرحي هو وثيقة تاريخية يمكن الاستدلال منها علي مراحل تطور الشعوب وقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم.. انه سجل التاريخ في صورته الإبداعية.