لم تنجح شعارات الديمقراطية الليبرالية في أن تجتث من التربة الأوروبية الجذور التاريخية للاضطهاد الديني والإثني. خبراء ومراقبون ينبهون إلى أن ما تشهده أوروبا حاليا من خطاب كراهية وآراء وسياسات عنصرية طالما اعتبرت محظورة، غير مسبوق في القارة الأوربية على مدى العقود السابقة.
في النمسا فاز مؤخرا حزب الشعب، المناهض للمهاجرين، وتعود جذور قياداته إلى تيار النازيين الجدد، في الانتخابات العامة التي أجريت في منتصف أكتوبر الماضي، ليصبح شريكا في تشكيل الحكومة الجديدة مع أحد الأحزاب القومية.
وقبل ذلك، تكشفت نتائج الانتخابات البرلمانية الألمانية التي أجريت في نهاية سبتمبر الماضي عن انضمام حزب ’البديل من أجل ألمانيا‘ اليميني المتطرف، المعروف بسياساته المناهضة للهجرة والإسلام، إلى البرلمان الألماني لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن.
ولا يختلف الحال كثيرا في إيطاليا؛ حيث حققت الأحزاب اليمينية المتطرفة فوزا كبيرا في الانتخابات العامة التي شهدتها البلاد في بداية شهر مارس من هذا العام، وفي تشكيل الحكومة إلى جانب ائتلاف يمين الوسط، وتطالب هذه الأحزاب جميعا بطرد مئات الآلاف من المهاجرين.
في هذا السياق، يحذر نعومي دي سيجني، رئيس اتحاد الجاليات اليهودية الإيطالية، من أن المناخ السياسي العام “يعج بدلالات واضحة على عودة الفاشية الجديدة”. ومع تصاعد مد خطاب الكراهية اشتعلت شرارة العنف، ففي فبراير 2018، شارك لوكا تيريني، مرشح محلي سابق عن حزب ’رابطة الشمال‘ اليميني المتطرف، في عمليات إطلاق نار عشوائية، في مدينة ماسيراتا، على مهاجرين أفارقة، ثم يتوجه بعد ذلك إلى النصب التذكاري للحرب في عهد موسوليني بالمدينة، ويؤدى التحية العسكرية الفاشية قبيل إلقاء القبض عليه.
لوكا تيريني
وفي أثناء محاكمته، وقف تيريني، الذي يبلغ من العمر 28 عاما، يتباهى بجريمته، وعلى وجهه وشم يرتبط باليمين المتطرف، وفي يده كتاب هتلر المعادي للسامية Mein Kampf (كفاحي).
في هذه الأثناء عجت شوارع مدينة ماسيراتا بمسيرات حاشدة لدعم موقف تيريني، إلى درجة أذهلت الجميع، بمن فيهم جيانكارلو جوليانيللي، المحامي الموكل بالدفاع عنه، الذي خاطب مراسلي الصحف والتليفزيون قائلا: “على المستوى السياسي، هناك مشكلة معقدة؛ فالمواطنون في ماسيراتا يوقفونني في الطرقات ليبعثوا برسائل تضامنية مع لوكا.. إنه وضع مثير للقلق، ويعطي انطباعا عما يجري على الأرض”.
وتنتهج الحملة المضادة للملياردير اليهودي الأمريكي من أصول مجرية، جورج سوروس، البالغ من العمر 87 عاما، النهج ذاته، فسوروس هو الشخصية التي طالما تعاملت معها التيارات اليمينية المتطرفة في أوربا والولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها شبحا مخيفا يهدد أمن واستقرار مجتمعاتها. لكن الشهور الأخيرة شهدت هجوما ضاريا وغير مسبوق ضد سوروس، فيما اعتبره مراقبون تعبيرا عن مشاعر وسياسات معادية للسامية.
ففي الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي شهدتها جمهورية التشيك في نهاية يناير 2018، هاجمت بعض الحملات عبر الإنترنت المرشح الرئاسي الموالي للغرب، جيري دراهوس، باعتباره جزءا من فريق يقوده سوروس من أجل فتح حدود البلاد أمام موجات هجرة كبرى لا تخضع لضوابط.
وفي المجر، مضى رئيس الوزراء، فيكتور أوربان، أبعد من ذلك؛ حيث طرح مشروع قانون أطلق عليه “أوقفوا سوروس”. ومع اقتراب الاستحقاق الانتخابي، الذي أجري في شهر أبريل الماضي، دشن أوربان حملات عدائية ضد الرأسمالي اليهودي أكثر من تلك التي دشنها ضد مناوئيه السياسيين.
وفي بريطانيا، أثار نيك تيموثي، مدير مكتب رئيسة وزراء بريطانيا السابق، دهشة قراء صحيفةDaily Telegraph مؤخرا عبر تصريح أكد فيه تزعم سوروس مؤامرة سرية تهدف إلى منع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
لكن الأخطر من ذلك هو تجاوز هذا التوجه لحدود السياسي وانتقاله إلى فضاء الثقافي. ففي فرنسا – حيث حلت ماري لوبان، ابنة ووريثة الزعيم السياسي المتهم بإنكار الهولوكوست، ثانية في انتخابات الرئاسة التي شهدتها البلاد في العام الماضي – أثار الكشف عن قيام وزارة الثقافة بإدراج اسم الكاتب المعادي للسامية، شارل موراس، في سلسلة من الكتب السنوية التي تخلد ذكرى الرموز والمناسبات الثقافية الكبرى في التاريخ الفرنسي ردود أفعال قوية. وقد أصر المؤرخون المشاركون في اللجنة التي وضعت قائمة هذا العام على أن تخليد ذكرى موراس يختلف عن الاحتفاء به، لكن نص تقديمه أغفل بوضوح عبارات “عنصري” و”معاد للسامية”.
كما تبدي ألمانيا، وهي الدولة التي تلطخ سجلها التاريخي بالكثير من الخطايا العنصرية، توجها واضحا وحادا نحو هذا التغافل. فتاريخ الهولوكوست يقع في صميم النظام التعليمي للدولة، كما تحفل العاصمة برلين بكل ما يذكر بالفظائع التي ارتكبها النظام النازي، بدءا من ’أحجار العثرة‘ النحاسية الصغيرة التي تخلد ذكرى الضحايا، ووصولا إلى متحف ’طبوغرافيا الإرهاب‘ الذي يتتبع صعود النازيين في الموقع الذي كان يوجد فيه مقر الجستابو في السابق.
إضافة إلى ذلك، تشهد ألمانيا أيضا تصاعد المد اليميني المناهض للإسلام. ويشير أندريا ناكاما، المؤرخ ومدير متحف ’طبوغرافيا الإرهاب‘ إلى أن المفارقة تكمن في أن المسلمين واليهود وغيرهم من الأقليات الدينية “يقبعون جميعا في القارب ذاته، حتى لو لم ينظروا إلى القضية على هذا النحو”.
متحف طبوغرافيا الإرهاب في برلين
ويضيف ناكاما أن هذا المتحف يروي قصة نظام اتخذ من اضطهاد الأقليات ذريعة لتهميش القانون؛ “إنه درس التاريخ الذي يجب أن نعيه لندرك قيمة الديمقراطية الليبرالية”.