رؤى

الحرب على الديمقراطية الليبرالية (1 – 3): الأصولية على الطريقة الغربية

جوزيف لوكونتي، أستاذ التاريخ في كلية كينجز كوليدج- نيويورك

ترجمة وعرض: أحمد بركات

مشروع الديمقراطية الليبرالية على الطريقة الغربية، ليست بالأمر الجديد، ولطالما واجه هذا المشروع  جمهورا ساخطا من السياسيين والكُتاب والأكاديميين والنشطاء اليساريين الذين أعلنوا على مدى عقود رفضهم له، وحمّلوه أوزار العنصرية وعدم المساواة والاستغلال في العالم. لكن اللافت هنا أن الشعور بالسخط على هذا المشروع الديمقراطي الغربي، يأتي هذه المرة من بعض المحافظين المسكونين بأفكار اليمين الثقافي والديني المتطرف، الذين يخبروننا بأن الليبرالية قد انهارت لأنها كانت غارقة في الخطيئة منذ مولدها.

يقدم هؤلاء المحافظون الرافضون للديمقراطية الليبرالية تحليلات تسلط الضوء على أمراض الغرب الاجتماعية؛ فلا شك في أن تفشي وباء الشعور بالعزلة، والمادية المحمومة، وتفسخ الروابط الأسرية، وانهيار العلاقات الاجتماعية، تمثل جميعها مشاكل مروعة. لكن جوهر انتقاداتهم ينصب بالأساس على أصول النظام الليبرالي الأولى وأفكاره المؤسسة. إلا أن هذه الانتقادات التي يوجهها اليمين المحافظ للديمقراطية الليبرالية لا تقل في افتراءاتها وتشويهها للحقائق، عما يفعله اليسار الراديكالي.

Image result for ‫اليسار الراديكالي‬‎

خطايا العصور المظلمة

وفي هذا السياق يرى البروفيسور جوزيف لوكونتي، أستاذ التاريخ في كلية كينجز كوليدج، في نيويورك، أن وراء  هذا الرفض لمشروع الديمقراطية الليبرالية، حنينا جارفا إلى عالم ما قبل الحداثة، وارتباطا وثيقا بمفاهيم العصور الوسطى للفضيلة والمجتمع والسلطة. لكنه يؤكد أنهم – حتى في ذلك – يفشلون في تقدير خطايا الفكر الديني المسيحي على نحو صائب، مثل تشويه الضمير الفردي، وتجريم الخروج على السلطة، والخلط المدمر بين الكنيسة والدولة، والإيمان المطلق بقيادة رجال الدين، والمعاداة الراسخة للسامية.

Image result for Joseph Loconte

Joseph Loconte

ويؤكد «لوكونتي» في مقالة بعنوان The War Over Liberal Democracy (الحرب على الديمقراطية الليبرالية) أن المشروع الكاثوليكي الذي يضرب بجذوره في أطناب العصور الوسطى فشل – برغم كل منجزاته – فشلا ذريعا في دعم أحد أهم الأفكار التي بشرت بها اليهودية والمسيحية بشأن حرية وكرامة النفس البشرية. فمنتقدو الليبرالية من المحافظين، يتجاهلون بداياتها التاريخية، حيث  أدت محاولات بناء مجتمع مسيحي بالإكراه إلى خيانة المثل العليا الإنجيلية والإنسانية. وأطلق البحث عن مجتمع أحادي العنان لحملة طويلة من القمع والإرهاب، وهو ما أنتج على مستوى الجذور أزمة المسيحية الوجودية.

ومع ذلك، فقد أثار هذا الإخفاق الكارثي – الذي يمثل تناقضا صارخا بين حياة المسيح وتعاليمه – ردة فعل مسيحية قوية. بهذا المعنى، بدأ المشروع الليبرالي كحركة احتجاجية تتحرك همسا في النزعة الإنسانية المسيحية لإيرازموس، ثم تسارعت وتيرتها في إصلاحات مارتن لوثر، وتتقدم حثيثا في رؤية جون لوك، لتبلغ أوجها في جمهورية جيمس ماديسون. ومن ثم، فإن التخلي عن الليبرالية – كما يقترح منتقدوها – سيؤدي إلى نفس الأسباب التي دفعت إلى التمسك بها، وهي تفشي الجهل والعبودية والاستبداد والسلطوية. وفي المقابل، يمثل فهم الإنجاز التاريخي لليبرالية والدفاع عنه خطوة أولى صوب أي جهد جاد على مستوى التجديد الثقافي والإصلاح الاجتماعي.

السلطوية البابوية

يبدأ لوكونتي مقالته برصد الإصلاحات المهمة في القانون والسياسة والمجتمع التي شهدتها أوربا بعد تحول الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحية، وتمثلت هذه الإصلاحات في إنشاء مؤسسات لرعاية الفقراء، وإلغاء كافة صنوف الاستعباد. وكانت الجامعات التي أسستها الكنيسة في باريس وبولونيا وأكسفورد وتولوز ابتكارا مهما كمؤسسات للتعليم العالي. وفي أفضل حالاته، ساعد المذهب الرهباني على تقديس مفهوم العمل، وتحدي مادية العصور الوسطى، والارتقاء بالروح وتعزيز الاتصال بالسماء ودراسة الكتب المقدسة، وتوثيق العلاقة بين المعتقد المسيحي والفضيلة المسيحية.

وبرغم ذلك، كررت كنيسة العصور الوسطى في نهاية المطاف العادات القمعية لروما الوثنية، وأسست لها، وفي القرن الحادي عشر، جسد بابا روما رغبة الكنيسة في فرض إرادتها على العالم الغربي المسيحي بأكمله.

ففي محاولة لإنهاء تدخل الإمبرطور في شئون الكنيسة، أصدر البابا جريجوري السابع في عام 1075 وثيقة Dictates of the Pope (إملاءات البابا)، وهي وثيقة ثورية في تحديد علاقة الكنيسة بالدولة، حيث أكدت هذه الوثيقة عصمة الكنيسة، وسلطة الباباعلى الجميع بما في ذلك السلطة السياسية. فالبابا، كما ورد في الوثيقة «يحكم على الجميع، بينما لا يخضع هو لحكم أحد». كما منح البابا نفسه سلطة عزل الإمبراطور. وفي عام 1302، أكد البابا بونيفيس الثامن هذه الدعاوى في وثيقة حملت اسم Unam Sanctam (المقدس الأوحد)، حيث ورد بها، ضمن بنود أخرى: «نحن نعلن، ونقرر، ونحدد أنه من دواعي الضرورة القصوى من أجل الخلاص يجب أن يخضع الجميع دون استثناء لبابا روما». 

Related image

البابا بونيفيس الثامن

رغم هذه الممارسات السلطوية الاستبدادية من جانب الكنيسة، فإن منتقدي الحداثة من المحافظين المتشددين يلقون باللائمة على هؤلاء التنويريين الذين روجوا «للنزعة الفردانية الراديكالية» تحت شعار الحرية، وهو ما أدى – في زعمهم – إلى «ذلك البحث الحثيث عن السلطة السياسية الذي أودى بالحكم الذاتي الديمقراطي إلى حالة من العجز المطبق».

إن صعود الدولة المهيمنة ذات الكفاءة يمثل مشكلة معقدة؛ لكنها – برغم ذلك – ليست مشكلة جديدة من نوعها. ففي محاولته ترسيخ سيادة بابا روما، بدأ جريجوري بـ «البحث عن السلطة بداخله»، وهو تعبير صارخ عن الاستقلالية الفردية. ومن خلال محاولة ترسيخ سلطة فردية مطلقة ذات صبغة دينية سياسية، صادقت الكنيسة على نظرية للحكم تنافس نظرية الحكم المطلق لتوماس هوبز. وعن طريق التوسع في استغلال سلطاتها، فقدت كنيسة العصور الوسطى مصداقيتها أمام مراكز القوى الناشئة في أوربا.

Related image

توماس هوبز

سياسات القهر

كان الجسد الكنسي يعاني أيضا من جروح أخرى. ف «باباوات النهضة» -الذين ألهموا رواية «العراب»، Godfather، للأديب الأمريكي «ماريو بوزو» – كانوا سيئي السمعة بسبب فسادهم وجشعهم، إذ لم تكن الرشاوى البابوية والاستبداد والانتهاكات الجنسية والعنف، إسرارا تخفى عن العلمانيين المستنيرين. وفي خضم هذه الحالة، دفعت «عمليات بيع الآثار الدينية وصكوك الغفران» إلى تدشين التسويق التجاري للإنجيل.

ربما ينتقد باتريك دينين، أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدستورية في جامعة نوتردام، الليبرالية لتعزيزها «الدغدغة الجنسية» والمجتمع المهووس «بالاستهلاك والشهية والانفصال»؛ لكن هذه الانتقادات تصف -أكثر ما تصف – الثقافة الكنسية  في أوربا في نهاية العصور الوسطى.

ومع ذلك لم يكن الفجور الذي استشرى في القيادة الكنسية والصراع على السلطة بين الكنيسة والدولة هما السبب الوحيد في أزمة المسيحية؛ فقد  كانت القضية الأخطر هي السياسات الداخلية في مواجهة الانحراف الديني. فعلى عكس روما القديمة، لم تكن الإمبراطورية الرومانية تتسامح مع التعددية الدينية داخل حدودها. وكان القديس أوغسطينوس أحد أهم نماذج رموز الفكر المسيحي التي دعت إلى شرعنة القوة ضد المنشقين عن الدين او الهرطقة. وفي هذا السياق، كتب أوغسطينوس أن «الكنيسة تضطهد بدافع الحب، أما الهرطقة فتتولد بدافع القسوة». وقد ترسخت آراء أوغسطينوس إلى درجة دفعت بفيلسوف القرن السابع عشر بيير بايل، المتحول إلى البروتستانتية، إلى القول إنه «ليس هناك شيء أكثر انحرافا، أو أكثر إيذاء للمسيحية من منح المسيحيين تفويضا عاما لإجبار الآخرين على التحول إليها».

Image result for ‫القديس أوغسطينوس‬‎

القديس أوغسطينوس

*يمكن قراءة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا ?

 

 

 

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock