لعب وضع مارتن لوثر كينج كقس في كنيسة دورا محوريا في اختياره لتولي رئاسة “اتحاد تطوير مونتجمري”؛ إذ كان القساوسة – على خلاف أغلبية السود – يتمتعون باستقلال مالي عن البيض، وهو ما جعلهم أقل تأثرا على المستوى الاقتصادي بأي ردود أفعال انتقامية.
من ناحية أخرى، اضطلع عدد من الكنائس بدور محوري كمراكز تنسيق مجتمعية وشبكات معلومات نظرا لأنها كانت تخضع بالكامل لهيمنة السود وإدارتهم؛ فشكلت ملتقى جماهيريا، وأضفت مصادقة وتعبئة دينية على فكرة القيام بعمل جماعي ضد الفصل العنصري.
في هذه الأثناء، بلغت “الرابطة الوطنية للنهوض بالملونين” أوج ضعفها وتراجعت أعداد العضويات في فروعها إلى أدنى معدلاتها بعد أن تحولت إلى هدف لأعمال البيض الانتقامية في أعقاب ما عرف بـ “قضية براون”. وكان بزوغ الزعامة الكنسية السوداء في مونتجمري تطورا مهما جاء في حينه، حيث آلت إليها مسئولية دعم الحراك الأسود.
لم يمض وقت طويل حتى تولى كينج رئاسة منظمة حقوق مدنية جديدة تحمل اسم “مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية” Southern Christian Leadership Conference، وتهدف إلى تنسيق جهود كنائس السود في جميع ولايات الجنوب.
على إثر ذلك، عقد كينج وأعضاء من “اتحاد تطوير مونتجمري” لقاء مع مسئولين بيض بالمدينة لعرض مطالب المجتمع الأسود للحد من الممارسات العنصرية على متن الحافلات. تمثلت هذه المطالب في تعديل نظام الفصل العنصري بما لا يجبر الركاب السود على إخلاء مقاعدهم، وضمان تعامل السائقين البيض مع الركاب السود على نحو أفضل، وتعيين سائقين سود لخطوط السير التي يكون أغلب ركابها من السود. لكن المسئولين البيض رفضوا هذه المطالب جميعا.
في أعقاب هذا الاجتماع، بزغ نجم كينج في المجتمعين الأبيض والأسود على السواء. وفي يوم 26 يناير 1956، ألقت شرطة المدينة القبض على كينج بحجة قيادة السيارة بسرعة بلغت 30 ميلا في منطقة يبلغ الحد الأقصى للسرعة فيها 25 ميلا فقط. وبلغت التهديدات بقتله من قبل مواطنين بيض أوجها.
في هذا السياق يذكر المؤرخ الأمريكي جون كيرك، في كتابه Martin Luther King JR: Profiles in Power، أن كينج غلبه الأرق ذات ليلة، فقام ليحتسي فنجانا من القهوة، ودعا الله أن يمنحه القوة لمواصلة النضال، فسمع صوتا يناجيه: “قف إلى جانب الحق، وسيكون الله في عونك دائما”. تركت هذه اللحظة – وفقا لكيرك – أثرا عميقا في نفس كينج، “وتحولت قيادته من مجرد مسئولية مدنية إلى تكليف ديني”.
لم تمض بضعة ليال بعد هذه الليلة حتى تعرض إيمان كينج لاختبار صعب، عندما قامت مجموعة من العنصريين البيض بقصف منزله أثناء وجود زوجته وطفلته بداخله، لكن أحدا منهما لم يصب بجروح خطيرة. ومع انتشار الخبر، هرع السود الغاضبون إلى مكان الحادث، لكن كينج هدأ من روعهم قائلا: “أريدكم أن تحبوا أعداءكم … إن قضيتنا عادلة، وإن الله يقف إلى جانبنا”. ونجحت كلمات كينج في الحيلولة دون وقوع أعمال شغب واسعة النطاق.
وفي اليوم التالي، تقدم “اتحاد تطوير مونتجمري” بدعوى قضائية طالب فيها بإلغاء قوانين التمييز العنصري في حافلات مدينة مونتجمري. ومع عدم ظهور أية بوادر للتسوية، تأجج الصراع، وتحول من مجرد ثلاث مطالب متواضعة لإصلاح النظام العنصري إلى رفض شامل وبات لهذا النظام.
استمرت المقاطعة أثناء نظر القضية من قبل المحكمة، وعقد السود عزمهم على عدم العودة إلى الحافلات حتى ينصفهم القضاء، وبدأ موقفهم يلفت إليهم الانتباه الوطني، وأبدت الصحف ومحطات التليفزيون اهتماما خاصا بكينج وبإصراره على السلمية.
وبرغم ما أبداه كينج منذ البداية من إيمان لا يلين بسلمية الاحتجاجات، إلا أن طرحه عن “الحج إلى اللاعنف” الذي أورده في كتابه Stride Toward Freedom: The Montgomery Story، الذي نشر في عام 1958، انطوى على قدر كبير من المبالغة.
في هذا السياق يؤكد المؤرخ ديفيد جارو أن اعتماد كينج على إستراتيجيات اللاعنف تطور عبر مرحلتين، امتدت أولاهما من وقوع حادثة مونتجمري إلى عام 1963، وفيها اعتمد كينج بشكل أساسي على إستراتيجية “الإقناع بدون استخدام العنف”، وذلك من خلال محاولة إقناع البيض بعدالة قضية الحقوق المدنية.
أما المرحلة الثانية فقد بدأت في عام 1963، عندما شرع كينج في مدينة برمنجهام، بولاية ألاباما، في تبني إستراتيجية “الإكراه بدون استخدام العنف”، وذلك من خلال اتخاذ إجراءات على الأرض، مثل الاعتصامات والتظاهرات، التي فرضت ضغوطا على مؤيدي التمييز العنصري. وظل كينج حتى اغتياله في عام 1968 يطور فكرة اللاعنف وإستراتيجيات تطبيقها عمليا.
وعلى الصعيد القانوني، استمرت قضية مونتجمري عاما كاملا أمام القضاء حتى قضت المحكمة العليا في نوفمبر 1956 بإلغاء الفصل العنصري في حافلات المدينة. وبعد أن استنفذ المسئولون البيض بالمدينة الطعون القانونية على الحكم، أصدرت المحكمة ما يفيد رسميا بإلغاء الفصل العنصري في 20 ديسمبر 1956.
وفي صبيحة اليوم التالي، كان كينج أول راكب على متن إحدى الحافلات، واستقبله السائق الأبيض بحفاوة، قائلا: “إننا سعداء بوجودك على متن الحافلة هذا الصباح”.
لم تنته القضية اجتماعيا وسياسيا عند هذا الحد؛ حيث عمد المواطنون البيض إلى شن حملة عنف شعواء لصرف الركاب السود عن استقلال الحافلات الموحدة، إلا أن الركاب السود نجحوا تماما في الصمود أمام الإرهاب الأبيض.
انتهت المقاطعة – إذا – بعد عام واحد بعدما حققت أهدافها على خير وجه. إلا أن هذه النهاية لم تكن سوى تأريخا لانطلاق حركة حقوق مدنية وليدة. فمع الحشد الجماهيري القائم على الكنيسة، والقيادة الدينية السوداء، والتمسك باللاعنف، وظهور مارتن لوثر كينج كأيقونة تاريخية للاحتجاج السلمي، قدمت مقاطعة الحافلات في مونتجمري مصدر إلهام وبرنامج عمل لجميع الحركات التي تلتها، وكانت الترس الذي كتب عنه إلدريدج كليفر، أحد أعضاء حزب النمر الأسود في كاليفورنيا، في وقت لاحق: “في مكان ما في هذا الكون، تحرك ترس في الآلة”