تاريخ الأغنية السياسية في مصر يمتد إلى قرون مضت، لكن الكاتب والشاعر محمد العسيري اختار أن يوثق للمائة عام الأخيرة من الغناء السياسي عبر كتابه الصادر حديثًا بعنوان “100 سنة غنا.. الأغنية السياسية”.
الكتاب الذي تجاوزت صفحاته المائتين وخمسين صفحة، لا يرصد فقط تاريخ الأغنية السياسية في مصر وتوقيتها ومولدها وتطورها، بل يرصد ويستعرض تاريخ مطربي وملحني وكاتبي الأغنية السياسية، بدءًا من يونس القاضي وصولا إلى الأبنودي وصلاح جاهين وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم وغيرهم، والملحنين من سيد درويش إلى بليغ حمدي والشيخ إمام، والمطربين من أمينة شخلع حتى شادية.
أحمد فؤاد نجم والشيخ سيد إمام
ينوه الناقد أحمد مجاهد باستثمار العسيري للسؤال في صياغته لكتابه، فهو يبحث قبل كتابته عن اجابات لأسئلة متخيلة. السؤال هو البطل الرئيس والمدخل لكل موضوعات الكتاب. يطرح العسيري أسئلته بحثا عن أجوبة شافية يستعرض فيها دهشتة لما هو مخفي، بدءًا من عنوان الكتاب، والذي جاء في صيغة لماذا مائة عام فقط من الغناء؟ خاصة وهناك ارتباط وثيق بين الأغنيات الشعبية والأغنية السياسية.
عرف المصريون الغناء الشعبي منذ فجر تاريخهم، يكفي ان نشير إلى الأغنية ذائعة الصيت “وحوي يا وحوي إياحا” وهي في اصلها تعد نموذجا لإسهام المصريين البسطاء في تقدير ملكتهم “إياح”، التي فقدت ابنها وزوجها في الحرب ضد الهكسوس، وقدمت ابنها أحمس لقيادة جيش بلادها، فعاد بالنصر بعد نجاحه في طرد الهكسوس ليستقبله المصريون مرددين اسم أمه الملكة “إياحا”. وفي تعليقه على هذه الأغنية يذهب العسيري إلى إن العلاقة متشابكة ومعقدة وكاشفة، أولها أن الغناء أصل شعبي، وهذه أغنية غناها المصريون البسطاء ووافقت هوى ملوكهم.
يكتب العسيري قصصا من لحم ودم عن تاريخ الاغنية السياسية، فهنا يأخذك في رحلة مع تاريخ النشيد الوطني، وكيف كاد النسيان أن يدهس مؤلف النشيد يونس القاضي. يعود العسيري إلى صيغة السؤال: مين يونس؟ ليحرضك على التساؤل معه: هو مين يونس القاضي؟ ويدخلك معه الى دهاليز الحكاية.
سيد درويش، يونس القاضي
محمد يونس القاضي، من مواليد قرية النخيلة إحدى قرى محافظة اسيوط، والتي ينسب إليها الشاعر محمود حسن اسماعيل، والموسيقار ميشيل المصري.
“القاضي” لقب والده الذي كان يعمل قاضيا بالمحكمة الشرعية. خالط محمد يونس القاضي رجال الأدب والسياسة وكان أحد ندماء الزعيم مصطفي كامل، ويشير العسيري إلى أن يونس القاضي هو أول رقيب على المصنفات الفنية في مصر، والمفارقة أنه بدا بمنع اذاعة اغنياته الخليعة التي كانت شركات الأسطوانات تتكالب على شرائها.
لم يختم العسيري حكايته عن يونس القاضي، بأنه مؤلف نشيد بلادي بلادي الذي صار فيما بعد النشيد الوطني، بل كتب عن تفاصيل علاقته بمصطفي كامل والشيخ سيد درويش.
ويظل السؤال هو مفتتح كل الحكايات في كتاب «100 سنة غنا الأغنية السياسية»، عبر فصوله الستة عشر، ليبدو كملحمة مغرقة في التفاصيل المدهشة عن تاريخنا عبر استعراض تاريخ الأغنية السياسية.
اختار العسيري صيغة السؤال ويركض عبر فصول كتابه حاملًا تفاصيل الدهشة.
الفصل الثاني جاء تحت عنوان “كبه تاخد الانجليز”، والثالث “النقيب شرقاوي”، والرابع “مصر في العوامة”، والخامس “مصر تبحث عن نفسها” من السيد البدوي للبحر بيضحك ليه، والسادس “معركة الزغاليل”، والسابع “هز الهلال يا سيد لتر الجاز بقى بروبية” وصولا إلى الفصل السادس عشر الذي حمل عنوان “أم كلثوم.. المرأة التي باعت البربري واشترت نفسها”.
لا يمكن أن تقرأ كتاب العسيري، إلا وأن ترجع إليه من وقت لآخر لسبب بسيط، وهو تلك المتعة التى يسربها عبر أسئلته الضمنية، وتحريضه المباشر على الدهشة والمعرفة. اختار أن يلعب بالسؤال الذي يشير بأنه لا يعرف، فيما هو في الحقيقة يسرع إلى اجابتك بالتفاصيل ويخطف السؤال من على لسانك ليعلن أنه الصحفي صاحب الحق في السؤال والشاعر صاحب الحق في الاجابة.