كان المسلمون في رواندا يؤدون شعائرهم في سر وخفاء، ما كان لهم الحق في أن يملكوا أو يتعلموا أو يسكنوا متجاورين، أو يتنقلوا من مكان إلى آخر إلا بأذن مكتوب يمنح من قبل الحاكم، حتى دقت الحرب طبولها وسالت الدماء أنهارا. خيم الوجوم والخوف على الجميع إلا تلك العصبة التي صارت بيوتها ملاذا للفارين والخائفين من هول المذابح الأهلية، وباتت مساجدهم مأوى لمن يسعى لبساتين الأمان وسط مفارز الخوف، فٌبعث الدين المستضعف بعثا جديدا، وصبت الحرب في حياضه فتنامى أعداد الوافدين الجدد إلى هذا الدين السمح.
بعد استقرار الأوضاع، سارع الرئيس الرواندي إلى تكريم المسلمين في بلاده، امتنانا بدورهم المشهود له من الجميع خلال محنة الحرب، ما عبر عنه الرئيس بقوله: “نظرا لمواقف المسلمين البطولية أثناء الإبادة الجماعية رغم قلتهم وضعفهم، نعتقد أنه لو كان الروانديون كلهم مسلمين لما وقعت الإبادة الجماعية في بلادنا”.
(الرئيس الروندي بول كاجامي)
وصل الإسلام إلى قلب إفريقيا -حيث تقع رواندا- عن طريق التجار اليمنيين الذين قدموا من الشرق، وما لبث أن انتقل إلى رواندا عن طريق جيرانها، تنزانيا وبوروندي وزائير. أخلاق التجار العرب والمسلمين الذين وصلوا إلى تلك الأنحاء عكست الكثير من الرحمة والمؤاخاة التي غرسها الإسلام في قلوبهم، فاعتنق الإسلام بعض من أبناء القبائل الإفريقية الهوتو والتوتسي، وفي عام 1913 بني في روندا أول مسجد، وهو المعروف باسم مسجد فاتح.
برزت أوجيجي كمركز إسلامي هام إذ بدأت الدعوة تنتشر في المناطق المجاورة لبحيرة تنجانيقا، إلى أن أقام المستعمر متاريسه في طريق الدعوة بعد استيلائه على قلب القارة، مع سيطرة ألمانيا على رواندا وبروندي وتنجانيقا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
مع دخول المستعمر دخل المسلمون في روندا مرحلة صعبة من التضييق والحصار وانتهاك الحقوق، وعلى مدار أربعين عاما عاني المسلمون التهميش، وأصدر المستعمر قانونا في عام 1900، ظل العمل به ساريا حتى وقت قريب، كان المسلمون بمقتضاه محرومون من التعليم ولا يحق لهم التملك أو الانتقال أو التجاور في السكن. ولأن الزراعة والرعي هما الحرفتان الأساسيتان في رواندا، ظل المسلمون المحرومون من التملك يتوارثون الفقر جيلا بعد جيل، ويقتصر نشاطهم على التعيش من تجارة بدائية لا تسمن ولا تغني من جوع .
ظل المسلمون يعانون نظرة دونية حتى وقوع الحرب الأهلية عام 1994 بين قبيلتي الهوتو والتوتسي راح ضحيتها مئات الألاف، ففي فترة لا تتجاوز المائة يوم حصد الموت نحو 800 ألف شخص، وتعرضت مئات الآلاف من النساء للاغتصاب.
وحدهم، المسلمون من الجانبيين (الهوتو والتوتسي)، امتنعوا عن المشاركة في قتل وذبح واغتصاب الآخرين ما لفت الأنظار إليهم، لاسيما بعد أن تحولت بيوتهم ومساجدهم إلى ملاذ آمن للفارين والخائفين والملتاعين من الجانبيين، بينما مورست أقسى أشكال القتل و التعذيب وتقطيع الأطراف في فناءات الكنائس والأديرة المسيحية على اختلاف طوائفها.
أيدي الجميع تلطخت بالدماء إلا المسلمين من الجانبين، هم وحدهم من أدانوا هستيريا القتل والدماء التي عمت البلاد، ثم فتحوا بيوتهم لإيواء الفارين من القتل. في بعض الحالات كان الهوتو يخافون من البحث في ميادين المسلمين عن التوتسي، فقد كان مشهورا على نطاق واسع أن أماكن المسلمين ودور عبادتهم محمية بكائنات من نار مذكورة في القرآن.
أثناء تلك الحوادث الدامية لم تكن أعداد المسلمين تتجاوز نسبة 4% من جملة سكان روندا، لكن ما أن وضعت الحرب أوزارها حتى دخل الكثير من أبناء قبيلتي الهوتو والتوتسي في الإسلام، وأصبح المسلمون يشكلون نحو 30% من جملة سكان رواندا الدولة ذات الأغلبية المسيحية.
الحرب الأهلية كانت بمثابة فرصة لإعاد إندماج هذه الأقلية المستضعفة لتصبح مكونا أصيلا ومهما ومحتفى به من قبل الدولة الرواندية، وربما كانت صلابة ذلك المكون الإسلامي من قبيلتي الهوتو والتوتسي، هي النواة الصلبة التي على أساسها تم إعادة بناء المجتمع الرواندي، الذي سيحقق في السنوات التالية أروع الأمثلة على إمكانية التصالح والتعايش الوطني.
نجح الروانديون من خلال المحاكم الشعبية (غاشاشا) التي أقيمت ما بعد عام 2001 في إجراء مصالحة وطنية على الصعيد الفردي في قرى البلاد لإذابة آثار الحرب الأهلية التي راح ضحيتها أكثر من مليون شخص، قضت المحاكمة الشعبية بالاعتراف بالذنب أو تحمل نفقة المعيشة والإعالة على من تسبب في إعاقة دائمة. كان الغرض هو تصفية الضمائر من الإحساس بالذنب، وتصفية النفوس من الشعور بالكراهية والرغبة في الانتقام، وفتح الأفق لإمكانية التعايش السلمي والعمل معا في سبيل بناء الوطن، وهو ما نجحت فيه إلى حد كبير.
انطلقت رواندا في تجربة اقتصادية يضرب بها المثل في نجاحها وتميزها رغم قصر عمرها، وبات الاقتصاد الرواندي هو الأعلى نموا في أفريقيا، وأصبحت بلادهم الوجهة السياحية الأولى في القارة السمراء، وما كانت هذا التجربة لتنجح لولا تلك المصالحة الوطنية. تجربة تبدو جديرة بالتمعن والمحاكاة من شعوب كثيرة ذاقت ويلات الحروب الأهلية، وفي مقدمتها شعوبنا العربية في سوريا وليبيا واليمن، وربما كان ذلك سبيل النجاة واستعادة السلام الأهلي من جديد والانطلاق نحو مستقبل ينهي محنة الغرق الفتن والدمار، جراء أجندات أجنبية لنشر الكراهية وتفكيك الأوطان.
السلام لا يرضي به الجشعون الذين يريدون أن يسرقوا مقدرات الشعوب
ولكن في الأخير لن ينتصر إلا الحق وربك يمهل ولا يهمل وسنقف جميعا أمام الله
وكل سيوفي ماعمل دون زيادة أو نقصان