منوعات

الصوفية المجاهدة (1): الملا المجنون.. الشيخ الصومالى الذى أرعب الاستعمار البريطاني

كان الشيخ محمد عبدالله حسن ابن الصومال عاكفا على أذكاره وأوراده الصوفية برفقة أقرانه من الدراويش بعدما ارتشف الكثير من أصول الفقه وعلوم الشريعة والسيرة النبوية على أيدي شيوخ الأوجادين. لكن حدثا فارقا سيغير مجرى حياة الدرويش الزاهد ليصير واحداً من أهم القيادات الجهادية التاريخية في إفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية.

نقطة البداية

تروى الحكايات أن الصوفي الزاهد استفزه ما يقوم به المحتلون الإنجليز من تغيير لهوية الأرض الصومالية، بتغيير التركيبة الديموغرافية لأبنائها، ففي واقعة شهيرة سأل الشيخ أحد الأطفال عن اسمه فأجابه الطفل (جون فاثر)، وأن اسمه السابق كان (مٌحمد)، فما كان من الشيخ إلا ان أمسك بحجر ليلقف به أحد الجنود الانجليز ويُشهد اللهَ أنه أضعف الإيمان، تعجب الجندي الانجليزي من سلوك المٌلا الدرويش فأجابه الناس ليصرفوه عن فكرة الانتقام (إنه مجنون) ليشتهر منذ ذلك الحين بـ (المٌلا المجنون) غير أن تلك الواقعة لن تكون سوى نقطة البداية في فصل من تاريخ  كفاح  لا يعرف الهوادة.

ولد محمد عبدالله حسن في السابع من أبريل عام 1856 في قرية «فوب فردوت» في بطن من بطون بهجري أحد بطون قبائل الأوجادين. بدأ حياته مع إخوانه في حفظ القرآن الكريم وتفهم تعاليم الإسلام الحنيف كعادة أهل البدو في الصومال والبلاد الإسلامية، وقد جود القرآن الكريم، وحفظ الكثير من المتون على يد شيوخ الأوجادين.

 

 بعد وفاة والده الشيخ عبد الله حسن نور انتقل مع والدته إلى «الصومالاند» (الصومال في فترة الاحتلال البريطاني)، حيث عاش في كنف أخواله فترة من الزمن، تعلم خلالها على يد أساتذة من العرب والصوماليين، ثم ارتحل مرة أخرى إلى الأوجادين أحد المراكز الإسلامية في الصومال ليدرس أصول الفقه والتشريع والسيرة على يد شيوخها وعلمائها العظام.

اشتغل بالتدريس فترة في الصومالاند فاشتهر بين المعلمين بسعة الاطلاع وغزارة العلوم والمعارف، حتى لقب بالفقيه البارع ،غير أنه تحول مرة أخرى إلى طلب العلم في مساجد مقديشيو التي كانت ذات شهرة واسعة على المحيط الهندي من كرم الضيافة لطلاب العلم والدين، علاوة على ما بها من الشيوخ المتخصصين في مختلف أنواع العلوم وفروع التفسير والتشريع.

 في حوالي عام 1890 ميلادية سافر محمد عبدالله حسن إلى بلاد الحجاز لأداء فريضة الحج، وخلال إقامته في مكة المكرمة والمدينة المنورة، تردد على الشيوخ العرب، ينهل من معارفهم ويراقب أحوالهم، وهناك تعرف على الفقيه الشيخ صالح السوداني مؤسس الطريقة الصالحية، وتتلمذ على يديه حتى آخاه في المعرفة والإنسانية، وكان الشيخان يتتبعان أخبار ثورة المهدي في السودان، وثورة العرابيين في مصر ضد الظلم والطغيان والمستعمر الغاشم الذي جاء إلى أوطانهم بوباء التبشير والاستعباد.

العودة إلى الوطن

أثناء اقامته بمكة نما إلى مسامعه ما كان من سياسة المحتل البريطاني بساحل بربرة حيث شرع في التبشير وبناء الكنائس، فتضامن مع الشيخ صالح السوداني في الدعوة إلى الجهاد ومكافحة السياسة الاستعمارية البريطانية ، وما إن عاد إلى الصومال – التي كان يراقب أخبارها عن بعد من خلال حكايات الحجيج وطلاب العلم – عام 1896 حتى بدأ في نشر دعوته الايجابية بين مريديه، فأنشأ في بربرة مركزاً لنشر تعاليم الطريقة الصالحية، وبث في مريديه روح الكفاح والنضال ونزع فتيل الفتنة والشقاق بين القبائل، فخلق تكتلاً صومالياً جديداً في  الكفاح الوطني د والدعوة لتحرير الوطن، نواته من مريديه الدراويش.

ومنذ ذلك الحين بدأ الشيخ محمد عبدالله حسن في حشد الحشود من شتى بقاع الصومال لبدء سلسلة من حروب الجهاد هي الأطول في تاريخ الحروب ضد الاستعمار, وكان حسن دائم الإشارة في خطبه وأشعاره إلى أن البريطانيين «قاموا بتدمير ديننا وجعلوا من أبنائنا أبناء لهم كما تآمر الأثيوبيون بمساعدة البريطانيين على نهب الحرية السياسية والدينية لأمة الصومال»  وبفضل هذه الشجاعة النادرة فى مواجهة الاستعمار أصبح محمد عبد الله حسن بطلا وطنيا فى وقت قصير.

إلى أن كانت حادثة القس الإنجليزي الذي كان منزله بجوار أحد المساجد في بربرة، وقد كان طبيعيا ومألوفا لدى القس أن  المؤذن يصعد إلى أعلى المنبر ويؤذن في مواعيد الصلاة، وفي فجر يوم من الأيام استيقظ القس على صوت المؤذن يؤذن لصلاة الفجر، فما كان منه إلا أن أطلق عياراً نارياً على مؤذن المسجد فأرداه قتيلا. كان العيار الناري الشرارة الأولى لقيام الثورة الصومالية ضد المبشرين في الصومال، وقام الشعب تحت قيادة الشيخ التقي محمد عبد الله حسن إلى مركز ديمولي فهدموه وإلى بربرة التي لجأ إليها القس وتلاميذه من مركز ديمولي، إلا أن القوات البريطانية قامت بتهريب القس ورفاقه سرا إلى ساحل عدن، غير أنهم لم ينسوا لمحمد عبدالله حسن أنه كان المحرك الرئيسي للأحداث فأمروه بالخروج من بربرة.

 انتصارات كبيرة

خرج محمد عبدالله حسن إلى منطقة «نقال» حيث اشترى نحو عشرين بندقية، ليستخدمها في مواجهته الأولى ضد عملاء الاحتلال البريطاني من العصابات الإثيوبية التي انتصر عليها وغنم منها كثيراً من السلاح، ثم وجه دعوته إلى سلاطين وحكام ورؤساء القبائل الاثيوبية لرفع راية الجهاد ضد المحتلين الانجليز، فقد كتب  إلى السلطان عثمان محمود المجرتين يقول:

«بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله. كيف الرعية وحامي ديارهم منفذ أوامر الشرع المنادي به في سبيل الله. جناب المجاهد السلطان عثمان بن محمود سلطان المجرتين أيده الله ووفقه ونصره آمين. أعرض على مسامعكم الكريمة بعد رفع ما أوجبه الله من التحية الخالصة والدعاء المقبول إن شاء الله، أني أبعث لكم كتابين تباعاً تنفيذاً لقول الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم، «الدين النصيحة لله ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم» و بينت فيهما ما يفترضه الواجب الديني لمعالجة المطامع المسلطة على بلادهم من دولة إيطاليا الكافرة، الظالمة القاسية، و وضحت لعظمتكم أن الله تعهد بنصر المؤمنين، و تكفل بألا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً إذا قاموا بتأييد دينهم، والسير على سنن قرآنهم، فإنه قال «ما فرطنا في الكتاب من شيء». و قال في سورة الأنفال «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» وعلى هذه السنن نهج السنوسي مع إيطاليا في طرابلس الغرب، فإنه هزمها وقهرها وغنم ما لايحصى من الذخائر والعتاد الحربي، ولم يتركه هملاً، بل صار يقاتلهم به بعد أن استعد لكل ما يلزم، وعلى هذه القاعدة أيضاً سلك سلطان الريف في المغرب الأقصى فإنه غضب لله وخرج منفرداً يقاتل في سبيل الله، ومازال يسير في وادي الإخلاص بحزم وحكمة وثبات حتى صار يقود اليوم مائتي ألف مقاتل مزودين بالبنادق والمدافع الضخمة والرشاشات السريعة التي غنمها منهم وسار يستعملها ضدهم حتى أرهب دولتي فرنسا وأسبانيا ودك قواتهما العظيمة وكاد يسحقها سحقاً، وكذلك مثل سلطان باشا الأطرش في الديار الشامية مع دولة فرنسا»

 دخل محمد عبد الله حسن على رأس جيش منظم من المجاهدين الصوماليين في الفترة من 1901 وحتى 1905 في العديد من المعارك العسكرية وحروب العصابات ضد الانجليز والطليان والأحباش والتي حقق فيها انتصارات ساحقة على القوات الانجليزية أشهرها معارك (بهر طبغ) أو نهر الدم لضخامة الدماء الانجليزية التي سالت في تلك المعركة، ومعارك غزوة قرطدن، وغزوة بيرطقة، ومعركة عفاروينة، وهو ما اضطر الانجليز إلى محاولة عقد هدنة مع محمد عبدالله حسن وجيشه من الدراويش عام 1905، لكنها فى الحقيقة كانت مؤامرة بريطانية إيطالية، وسرعان ما نقضها المٌلا المجنون بعدما تبين الغرض منها وهو حصاره وقواته بين الايطاليين والبريطانيين، واستأنف معاركه ضد قوات المحتلين.

 شهيد الوطن

استجمعت بريطانيا العظمى – التي استشعرت سقوط هيبتها- قواتها في جميع الأقاليم المجاورة (عدن والصومال وزنجبار وكينيا) لتدخل في معركة مفتوحة أمام قوات الدراويش بقيادة عبدالله محمد حسن، والتقى الجيشان في معركة دلمادوب التي انتصر فيه الصوماليون انتصارا ساحقا وغنموا فيها الكثير من الأسلحة التي صارت عدة لهم لاستخدامها في معارك لاحقة استمرت حتى عام 1921 حين نجح الانجليز في تحديد موقع المٌلا المجنون وقصف معسكره بالطائرات الحربية ليخرج الشيخ محمد عبدالله حسن جريحا من المعارك يلفظ أنفاسه الأخيرة شهيداً فى أشرف معركة فى سبيل الوطن، وبينما بحث الانجليز عن جثته ليمثلوا بها كما فعلوا مع زعيم الثورة المهدية في السودان، فقد نجح مريدو الشيخ محمد عبدالله حسن في دفنه وإخفاء ضريح الرجل الذي صاغ مقومات القومية الصومالية.

بلال مؤمن

كاتب و محرر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock