في أبريل من عام 1955، وخلال انعقاد مؤتمر باندونج الذي وضع الأساس لسياسة الحياد الإيجابي واللبنة الأولى لحركة عدم الإنحياز، سأل حسين فهمي نقيب الصحفيين الأسبق صديقه القديم، الرئيس جمال عبد الناصر: “لماذا تخص محمد حسنين هيكل وحده بالأخبار؟”
فأجابه ناصر بدهشة: “هذا غير صحيح، هو الذي يخصني بالأخبار، يتابع ما يجري في كواليس المؤتمر وينقل لي توجهات الوفود المشاركة وما ينوي كل وفد أن يطرحه ويقترح صيغاً تمكننا من تجاوز المطبات الدبلوماسية”.
شهادة حسين فهمي رئيس تحرير جريدة “الزمان” قبل ثورة يوليو 1952، ونقيب الصحفيين الأسبق رواها لمجموعة من الصحفيين الشبان في منتصف سبعينيات القرن الماضى، ونقلها الأستاذ عبد الله السناوي في كتابه “أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز”، وهي توضح كيف وثق عبد الناصر في هيكل وخصه بتلك المكانة رغم علاقته بعدد من كبار الصحفيين في ذلك الوقتن ومنهم حسين فهمي صديقه القديم.
“عبد الله السناوي وكتاب “أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز
وفقا للسناوي، بدا حسين فهمي مقتنعاً بصواب رهان عبد الناصر علي هيكل: “كان جاداً أكثر من اللازم بينما كان غيره يستمتع بالأجواء الساحرة في الجزيرة الإندونيسية”، في إشارة إلى جدية هيكل ودقته وانضباطه وفهمه للتطور الذي حدث لشخصية وفكر عبد الناصر، وهو ما لم يفعله أصدقاؤه الأقدم من الصحفيين، مثل إحسان عبد القدوس وأحمد أبو الفتح وفكري أباظة، وأيضا حسين فهمي الذي عرف عنه إضافة إلى موهبته الصحفية الفذة، ولعه بالسهر والاستمتاع بملذات الحياة.
فهمي وعبد الناصر
بدأت علاقة حسين فهمي بجمال عبد الناصر في مدرجات كلية الحقوق التي جمعتهما عام 1935 قبل أن ينتقل الأخير إلى الكلية الحربية.. الشأن الوطني العام جمعهما، فكلاهما شارك في مظاهرات الطلبة التي خرجت للاحتجاج على رفض إنجلترا على لسان وزير خارجيتها صامويل هور عودة الحياة الدستورية.
جمال عبد الناصر
جمعت قضايا الاستقلال والحرية وعودة الحياة الدستورية النيابية الصديقين، ولم تنقطع الصداقة بعد أن تفرقت بهما مقاعد الدرس.. حصل فهمي على ليسانس الحقوق، وبدأ حياته العملية مفتشا في ديوان المحاسبة، ثم محاميا في بنك مصر، ثم موظفا بالشئون القانونية بوزارة الشئون الاجتماعية، إلى جانب ذلك كان له إسهاماته الصحفية في مجلتي “الصباح” و”شهرزاد”، قبل ان يتفرغ للعمل الصحفي ويتولى بعدها رئاسة تحرير صحيفة “الزمان” التي يملكها إدجار جلاد باشا أحد نجوم العصر الملكي، وكان جلال الحمامصي سكرتيرا للتحرير ويساعده موسى صبري.
توطدت علاقة الصحفي حسين فهمي بصديقه الضابط جمال عبد الناصر، يلتقيان عندما تسمح ظروف عبد الناصر ويتبادلان الزيارات المنزلية ويتناقشان فيما يجري داخل الوطن وخارجه، وتطورت العلاقة بعد ثورة 1952. وكان ناصر يتردد على منزل حسين فهمي بالجيزة في أجواء من الثقة والصراحة، وفقا لما أورده الأستاذ محمد العزبي في كتابه “الصحافة والحكم”.
يقول العزبي في كتابه: في إحدى هذه الجلسات طرح عبد الناصر فكرة تطهير الصحافة والإطاحة بمن يهاجمون الثورة في جلساتهم الخاصة، وأشار إلى اسم شاعر كبير يهاجم الثورة كل ليلة من فندق هيلتون، فقال فهمي: الحل إن الثورة تعمل صحافتها.
تأسيس “الجمهورية”
اشترى حسين فهمي المطبعة من إدجار جلاد، باع الأرض الزراعية التي ورثها عن والده وما استطاع بيعه من أراضي والدته أمينة هانم ابنة برهان باشا نور، ودفع لإدجار جلاد المبلغ الذي اتفق عليه.. الكلام لا يزال للعزبي.
تم الاتفاق على تعيين أنور السادات مديرا عاما لـ”الجمهورية” بشرط عدم تدخله في التحرير، ولكن السادات كتب مقالا بعنوان “الصاغ الأحمر” هاجم فيه عضو مجلس قيادة الثورة خالد محي الدين، فرفض حسين فهمي إرساله إلى المطبعة، واعترض السادات وقال: “أنا مقالاتي تنزل من عندي للمطبعة ما تروحش لرئيس التحرير”، وهو ما لم يقبله حسين فهمي.
أنور السادات
ويروي حسين فهمي ذكرياته مع إصدار “الجمهورية”. يقول إن عبد الناصر فكر في إصدار صحيفة يومية للثورة بعد قيامها بأشهر قليلة وعرض عليه فكرة إصدارها في وقت كان الجلاء هو الهدف الأساسي للثورة وأنه وافق علي فكرة إصدار صحيفة تكون مهمتها إنارة الجماهير وتوعيتها بقضايا الاستقلال الوطني. كلفه عبدالناصر بوضع مشروع للجريدة. واقترح عليه أن يسميها “التحرير” إلا أنه طرح عليه تسميتها “الجمهورية” تيمنا بتحول مصر من الملكية إلي جمهورية، وأيضا لوجود مجلة تحمل اسم التحرير، واقترح شهر ديسمبر لصدور الجريدة لاستكمال الاستعدادات لإصدارها، واختار لها اليوم السابع من الشهر، لأنه يتفاءل به علي عادة العرب الأقدمين.
وتحت عنوان “ذكريات وحقائق عن صحافتنا” نشر حسين فهمي في “الجمهورية” مقالا في 10 ديسمبر عام 1984 بمناسبة مرور 31 عاما على اصدار الجريدة يشير فيه إلى أن الجمهورية تمثل نقطة تحول في الصحافة المصرية لأنها جمعت بين الرأي والخبر، ويقول إنه اختلف مع السادات منذ عام 1954 أكثر من مرة وقدم استقالته عدة مرات حتي قبلت.
ويضيف إن “الرئيس عبدالناصر فكر في اغلاق الجمهورية سنة 1954 واصدار جريدة اخرى، وان الإدارة في الجمهورية لم تكن في خدمة التحرير لكن كان العكس مما أدي إلي تعثرها.
ترك حسين فهمي “الجمهورية” واقترح عليه عبد الناصر تأسيس صحيفة أخرى فكانت “الشعب”، إلا أن الأمر نفسه تكرر مع صلاح سالم الذي عين مديرا عاما للجريدة، وذلك بسبب مقال كتبه فهمي أثناء العدوان الثلاثي بعنوان “لماذا فشلنا في الدفاع عن السويس؟”، وتكرر الصدام وقرر حسين فهمي اعتزال الصحافة وظل بلا عمل سنوات إلى أن قرر عبد الناصر تعيينه رئيسا لتحرير جريدة “الأخبار” سنة 1961.
ثقة الصحفيين
فى ديســـمـبـر عام 1954 تم انتخاب حســـين فـهمـي نقيبـا للصحفـيين على حساب صديقه القديم جلال الحمامصي، وتكرر انتخابه في 1957، و1958، و1959، و1961، كما انتخب عضوا بمجلس النقابة في 5 دورات.
كان حسين فهمي أول رئيس لاتحاد الصحفيين العرب، وافتتح مؤتمره العام الأول في فبراير عام 1965 بدولة الكويت، وشارك في تأسيس التنظيم الطليعي، وظل يكتب يوميات الأخبار حتى مطلع السبعينيات، ولأنه كان يكتب في السياسة الخارجية ولم يجاهر بانتقاد السادات بشكل مباشر لم تطاله قرارت الفصل من الاتحاد الاشتراكي التي صدرت عام 1972.
رائد الصحافة الحزبية
شارك حسين فهمي صديقه خالد محي الدين في الجلسات التأسيسية التي سبقت إطلاق منبر اليسار “حزب التجمع” لاحقا، وكانت تلك الجلسات تتم في منزل فهمي بالجيزة أو في استراحته الخاصة بالهرم، وفقا لما رواه للكاتب الصحفي محمود حامد مدير تحرير “الأهالي” الأسبق.
تولى فهمي مسئولية أمين الإعلام بحزب “التجمع”، وكان مسئولا عن إصدار نشرات الصحافة العالمية، وإصدار مجلة “التقدم” لسان الحزب قبل صدور “الأهالي”.
وفي إحدى المرات قررت النيابة مصادرة مجلة “التقدم”، وإحالة كل كتابها إلى التحقيق، ومنهم محمود المراغي وحسين عبد الرزاق وأمينة النقاش ومحمود حامد الذي أشار إلى أن فهمي رفض أن يذهب أيا من المحررين إلى النيابة وتحمل مسئولية العدد وحده وتم إخلاء سبيله وصرفه بعد التحقيقات.
ومع إطلاق “الأهالي” صار فهمي أحد كتابها إلى جانب دوره التنظيمي في “التجمع”، وتحمل المسئولية الإعلامية خلال انتفاضة 18-19 يناير عام 1977، وتوفى نقيبنا السابق في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي.
صورة الغلاف بريشة الفنان سعد الدين شحاتة