مرة اخرى يعود الأزهر الشريف وشيخه الجليل فى قلب دائرة الضوء وينشط حولهما جدل يبدو للوهلة الأولى أنه يتعلق بتجديد الخطاب الدينى وتحديث الفكر الاسلامى. ولكن الحقيقة أننا لسنا بصدد تجديد أو تطوير بل حلقة جديدة من حلقات صراع سياسى لا شأن له بالعقيدة ولا بتفسير الدين ويهدد مكانة وسلامة أحد أهم وأعرق المؤسسات المصرية.
الكلمة التى ألقاها فضيلة الدكتور أحمد الطيب الأسبوع الماضى فى الاحتفال بالمولد النبوى الشريف، وأثارت عاصفة من التعليقات والانتقادات، دعت باختصار إلى ضرورة التمسك بالسنة النبوية الشريفة باعتبارها مصدرا من مصادر فهم وتفسير الفقه الاسلامى، وإلى التحذير من الاكتفاء بالقرآن الكريم مصدرا وحيدا للفقه والشريعة. والحقيقة أن ما قاله الشيخ الجليل ليس جديدا ولا غريبا، بل الغريب أن يتصور أحد أن يخرج علينا رأس أكبر المؤسسات الاسلامية فى العالم لكى ينصح بنبذ السنة المحمدية وبالذات يوم الاحتفال بالمولد النبوى.
ولكن ما جعل هذه الكلمة المختصرة تتحول إلى قضية خلافية هو الصراع الدائر حول «تسييس» الأزهر واستغلاله من جميع الأطراف فى كسب نقاط ومساحات لا شأن لها بالعقيدة أو الدين، فى استمرار لحالة الاستقطاب الدائرة منذ سنوات والتى تسعى لاستدراج مؤسسات الديانتين الاسلامية والمسيحية معا.
وقد اتضح الصراع هذه المرة فى ثلاثة اتجاهات سعت جميعا لتسييس كلمة فضيلة الشيخ. الاتجاه الاول المدعوم من إعلام الدولة ويسعى للزج بالأزهر وشيخه ــ كما يسعى للزج بالكنيسة ورأسها الجليل ــ فى كل مناسبة لتأكيد دعمهما للدولة اعتقادا بأن هذا يزكى الحكم لدى الجماهير. اما الاتجاه الثانى الذى سعى لاستغلال المناسبة سياسيا فهو التيار الاسلامى المعارض والذى اقتنص الفرصة لإبراز كلمة شيخ الأزهر باعتبارها تدل على خلاف عميق مع رئيس الدولة وذلك فى محاولة لكسب ذات الجماهير فى صفه والنفاذ فى الفجوة المحتملة بين الدولة واكبر مؤسساتها الدينية. وأخيرا دخل على الساحة جانب ممن يعتبرون أنفسهم ممثلين لتيار الدولة المدنية لكى ينتقدوا شيخ الأزهر باعتباره لم ينتصر للدولة المدنية والتزم بالقواعد والاسس الفقهية المستقرة (بل صادفتنى تعليقات تستنكر الإصرار على وصف الأزهر بأنه شريف وشيخه بأنه جليل). وكل هذا ليس فى الحقيقة لا تعبيرا عن الدولة المدنية ولا عن تيارها الحقيقى المستنير لأن مدنية الدولة هى فصل مؤسسات الدين ــ المسجد والكنيسة معا ــ عن السياسة والحكم، وليس تغيير صفة ورسالة الأزهر واستدراجه لمزيد من التدخل مع الشأن السياسى.
وفِى غمرة هذا العراك السياسى المستتر، لم يعبأ الكثيرون بالمشاركة الموضوعية فى القضية الفقهية المطروحة لان الصراع سياسى ولا وقت فيه للتأمل والنقاش والاستفادة من الجدال، بل نقاط يجب تسجيلها واهداف يلزم إحرازها بينما المباراة لا تزال ساخنة. لم يستوقفنى شخصيا سوى تعليق محترم كتبه الدكتور أحمد عبدربه على صفحات هذه الجريدة أمس الأول، منتقدا فيه خطاب فضيلة شيخ الأزهر ولكن من نقطة منهجية وعلمية، وهى تعرضه سلبا لتيار «القرآنيين» بالهند وإيجابا لبعض المستشرقين فى غير الإطار السليم من وجهة نظر الكاتب. وانا لا أزعم علما فى هذا الموضوع المتخصص ولذلك لا انحاز لوجهة نظر الكاتب ولا ضده، وإنما أشير للمقال للدلالة على أن نقاشا جادا كان يمكن أن يجرى ويستفيد منه المجتمع لو لم يحل محله ويطغى عليه العراك السياسى المعتاد.
وأعود للتيار المدنى الذى يهمنى أمره، مؤكدا على أن مدنية الدولة هى فصل الدين ومؤسساته عن الحكم وليس استغلالهم لا لصالح الدولة ولا ضدها، وأن احترام المؤسسات الدينية واجب، وأن احترام من يحترمون المؤسسات الدينية واجب أيضا، وأن المدنية لا تعنى الاستهزاء بالكنيسة ولا بالأزهر، بل تقدير للدور الدينى والروحى والانسانى اللذين يقومان به ويدعمان به جماهير غفيرة تدين لهما بالولاء والتقدير، وأن حالة الاستقطاب السياسى للمؤسسات الدينية كانت ولا تزال من أسباب تعثر مشروع الدولة المدنية ومن اكبر الأخطاء التى وقع فيها التيار المدنى فى السنوات الاخيرة.
أما عن تجديد الفكر الدينى فهذا موضوع اخر ويستحق مناقشة جدية ومساحة خاصة، ولكنه لن يتحقق بقوانين ولا قرارات، ولا بتوجيهات حكومية، وبالتأكيد ليس باضعاف مؤسسة الأزهر أو الاستخفاف بشيخها. التجديد لن يكون إلا نتاجا طبيعيا وحتميا لحرية الإبداع والتفكير والتعبير فى كل المجالات، ولرفع القيود عن النشاط الفنى، وإعادة الحرية للإعلام المستقل، واحتمال النقد واختلاف الرأى. من يريد تجديدا فعليه قبول مقدماته وأسبابه والعمل على توفير المناخ المواتى له.