جريا على طبيعة المصطلحات التي صكتها الجماعات الإسلامية وحفرت لها فى نفوس أتباعها أخاديد غائرة وراسخة فيما تعرضه من أفكار أو مفاهيم، اخترت هذا العنوان الذى ظل أثيرا لدى جماعة الإخوان ومن نسج على منوالها، لكن بعد استبدال كلمة “المراجعة” بكلمة “الدعوة” والتي تعني هنا جماعة الإخوان حصريا فى بعض الأحيان أو شريكة مع غيرها ممن يتبنى نفس مقولاتها وأفكارها.
لايجادل عاقل في أن المراجعة هي شأن الأحياء الذين يريدون لحياتهم أن تمضي إلى الأفضل ولأفكارهم أن تتجدد دائما دون أن تتناقض مع قيم الدين الأصيلة أو سنن الكون الراسخة، والمراجعة شأنها شأن كثير من المفاهيم خضعت لعمليات ابتذال واختزال جعلتها لونا من ألوان التقريع أو الاتهام لفئة بعينها، وتنزيها ضمنيا لباقى فئات المجتمع، أو لفصيل دون آخر.
وإن كنا هنا نهتم في البداية بمراجعات الإسلاميين، فلا يعني ذلك أبدا أن نهمل مراجعات باقى تيارات الأمة، سواء اليسار أو التيار القومى أو الليبرالى، وكل تلك التيارات التي اقتسمت نهضتنا فى بعض المراحل، كما تحملت نصيبها العادل من الهزائم ومشاهد السقوط.
المراجعة نعم فريضة شرعية أمر بها ديننا وحفلت بها تجارب علمائنا، كما أنها ضرورة بشرية أكدتها تجارب الأمم الناهضة والشعوب المتحضرة، وهي تعني بالأساس إعادة النظر فى الفكر والسلوك عبر عملية استدعاء متكررة للأفكار والوسائل والأساليب التى نعتادها إخلاصا لوحي أو هوى أو تجربة.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، الأمين على وحى السماء، المبلغ عن ربه، من كانت تجربته موصولة على مدار الساعة بهدي السماء نبيا ورسولا وحاكما لدولة، كان يقول: “إني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة”.. والتوبة هنا تعني مساءلة النفس والمراجعة حتى لو كانت في واقع من هو معصوم محفوظ بوحى السماء.
هل يستطيع كائن من كان أن يدعي أنه ليس بحاجة إلى مراجعة؟ فردا كان أم جماعة؟ يقول الإمام أبو حامد الغزالي: “اعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة”، ولشيخنا الإمام محمد عبده نظرية تصنع منهجية واضحة للمراجعة عبر نظرة رباعية الأبعاد، لكم تمنيت أن ينتفع بها مفكرونا أو من عرضوا أنفسهم لما يسمى بالعمل الإسلامى، هى نظرية “الهدايات الأربعة” التي جعلها سياجا لمسيرة المسلمين، وهي تبدأ عنده بالعقل الذى جعله حاكما على الهداية الثانية “النقل” ثم التجربة البشرية المفتوحة، ثم الوجدان الحي الذي أهملته الحركات الإسلامية خصوصا فجعلته وجدانا سقيما لا ينتفع بغذاء صحيح.
جنت الحركات الإسلامية على نفسها وعلى قضية التغيير عبر تجارب لم تتعرض حتى الآن إلى مراجعة أو نقد جاد بما يكفي. وعندما نراجع مسيرة قرن من الزمان في تجربة الإسلاميين نكتشف أن مفهوم التزكية الضمنية والصريحة للأفكار والسلوك ظلا ديدنا لهم جميعا، ولم تغير ذلك محاولات بعض العقلاء الذين تنبهوا إلى أن جسد بعضها يكبر في الوقت الذي يضمر عقلها، كما جرى في تجربة بعض شباب الإخوان في العام 1947 ومنهم الشيخ أحمد العسال والقرضاوي وجمال الدين عطية، عندما اقترحوا -وفق تقديرهم فى هذا الوقت- أن يتفرغ مجموعة من شباب الجماعة ويتلقون لبانا ثقافيا آخر على يد كوكبة من مفكرى تلك الحقبة الغنية بمزيج رائع من الآداب والفنون.
(أحمد العسال)
لم يكتب النجاح لتلك التجربة، وظلت فاصلا لم يطل، وبقيت كل محاولة تقدمية ترفع شعار النقد أو الاستدراك، يتعاطى معها التنظيم بحسم وقسوة باعتبارها فتنة تستأهل المقاومة ونفي من يرفع شعارها خارج التنظيم الذى ظل عصيا على فكرة المراجعة التي اعتبرها معول هدم وليست خلقا لازما لتصحيح الأفكار أو إضاءة الطريق.
ظلت قضية المراجعة تقبع في دائرة ردة الفعل لا تحركها سوى مواقف الهزيمة التي لم تفلح تسميتها بالمحنة في تمريرها عبر وعي تلك الحركات، ومن ثم انشغل البعض بإجراء مراجعات يحاجج محمد يتيم الباحث المغربي بأنها كانت ذات طبيعة عقدية وتصورية في بعض الأحيان، ضاربا مثال بكتاب حسن الهضيبي “دعاة لا قضاة”، والذي كان ردة فعل على أفكار التكفير التي أنتجها فصيل من الإخوان بقيادة شكري مصطفى، الذي كان صريحا في الحديث عن أفكار التكفير العلني، بينما يحمل عنوان “دعاة لا قضاة” في رأيي حُكما على المجتمع بأنه بحاجة إلى الدعوة إلى الإسلام وليس بحاجة للتكفير، وهو ما يبدو تكفيرا ضمنيا تضمنته بوضوح أفكار حسن البنا ثم سيد قطب من بعده، على نحو قد يتسع تفصيله في مقالات قادمة.
(الباحث المغربي)
لم تفلح كتابات خجولة رفعت شعار النقد الذاتى في تهيئة طريق جديد لتلك الحركات رغم ما أنجزته بعض الأقلام المهمة في مسيرة المراجعات ككتابات عبدالله النفيسي، وخالص جلبي، وجودت سعيد، وسعد الدين العثماني.
لم تحظ كتابات مهمة ومراجعات مهمة أفضت إلى حل تنظيم الإخوان في قطر ربما بفعل ستار السرية الذي ضرب عليها، وهو ما أنجزته مجموعة الدارسين الذين عادوا إلى قطر ليسألوا أسئلة جادة مثل: من نحن؟ وإلى أين نسير؟ هل هناك مشروع نحمله ونتحمل تبعاته؟ هل هذا ما نريد؟ ما هي مصلحة المجتمع القطري في ذلك؟ هل للعقيدة الحزبية تبعات في المستقبل؟ هل هذا الثوب مناسب إرتداؤه في قطر؟ وغيرها من أسئلة ضُرب عليها سياج كثيف من السرية، التي لم تُخف حل التنظيم استجابة لنتائج تلك المراجعة التي انصرفت إلى دراسة الجماعة من حيث الهيكل والقيادة والثقافة السائدة، وانتهت إلى أن فكر البنا لم يحدد بدقة الموقف من الدولة، المشاكل الداخلية، الحكومة، الإدارة، الاقتصاد، نظريات العلاقات الدولية، التعليم، وغيرها من القضايا، ما أفضى إلى حل التنظيم، وهي تجربة جديرة بالدراسة.