تحت عنوان «نجيب محفوظ.. المتجدد» أقامت دار صفصافة للثقافة والنشر، احتفالية ثقافية يوم الخميس الماضي، بمناسبة ذكرى ميلاد أديب نوبل الـ 108، في بيت السحيمي بشارع المعز، التابع لقطاع صندوق التنمية الثقافية. تحدث في الندوة، الناقد الأدبي الدكتور صلاح فضل، والكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد الرئيس الشرفي لمهرجان القاهرة الأدبي، والمترجمة اليونانية بيرسا كوماتسي، والروائي أحمد شوقي في حضور مجموعة من الكتاب والمبدعين.
بدأت الاحتفالية بكلمة الناشر محمد البعلي، مؤسس ملتقى القاهرة الأدبي، والذي أشار إلى أهمية ودور الفعاليات الثقافية، في تنشيط المشهد الثقافي المصري، مؤكدًا أن هذه الفعالية، وهي أولى فعاليات صالون «مهرجان القاهرة الأدبي»، جاءت بهدف تنشيط المشهد الثقافي المستقل، وتسليط الضوء على الحركة الأدبية في مصر.
الناشر محمد البعلي
أربع مراحل أسلوبية
ثم جاءت كلمة الناقد الكبير صلاح فضل، الذي أكد على دور نجيب محفوظ، كواحد من كبار كتاب الرواية في العالم، والذي كتب بلغة وأسلوب لم يسبقه إليه أحد من قبله. ولفت «فضل» إلى أن هناك مؤتمرًا للشعر، أعطى لأحمد شوقي إمارة الشعر، لكن لم يحدث أن يكون هناك مؤتمر أعطى طه حسين عمادة الأدب العربي، ولكن استقر في الضمير العربي، أن يكون طه حسين عميدًا للأدب العربي.. وقد ينطبق على نجيب محفوظ، هذا التفرد في طريقته ومساره، فهو عميد الرواية العربية، وهو واحد من أعظم المبدعين الذين يطوعون اللغة في كتاباتهم.
أوضح «فضل»، أن نجيب محفوظ، كتب نصوصه الأولى بلغة مختلفة كليا عما كتب بعد ذلك وكانت تلك مرحلة أسلوبية أولى، ثم كانت المرحلة الثانية مع الثلاثية التى كانت بمثابة قفزة أسلوبية، متسائلا: كيف جعل محفوظ جسم اللغة يخف وقوامها يشف وكلماتها ترف؟ ليجيب: لم يكتب أحد قبل نجيب محفوظ، مثل هذه الكتابة التى تجمع بين صفاء ونقاء وشفافية ووضاءة اللغة العربية، وكأنها هى السائدة في أعماله.
وقال «فضل»، المرحلة الثالثة وجدتها بمجرد قراءتي للسطور الأولى من رواية الحرافيش، وجدتها بداية شعرية بديعة، استخدم فيها الأسطورة، وكتابة العالم بلغة لم تكتب من قبل.
واختتم «فضل»، أن الأسلوب الرابع لـ «محفوظ»، هو ما بعد الشعري، والذي تجلى في الفترة الأخيرة، فى كتاباته لأحلام فترة النقاهة، وهذا أسلوب يعتمد على الأمثولة والجمل المركزة، كأنه منظومة من قصائد النثر، كأنه عناقيد من الجمال والحكمة، فضلا عن الإبداع، وأن يكون مؤلف واحد، غامر وأبدع بهذه الأساليب الأربعة طيلة حياته، يستحق حقيقة، أن نقول عنه مجدد ومتجدد، إنه مُلهِم، ومُلهَم، لأنه نجيب محفوظ.
الناقد صلاح فضل
شخصيات «محفوظ» الفاتنة
وفى كلمتها أشارت الكاتبة اليونانية، بيرسا كوماتسي، إلى أنها عرفت نجيب محفوظ خلال خمسة عشر عامًا، عبر ترجمة أعماله، حيث ترجمت له 15 رواية، منها ما استخدم فيها الأسطورة، وهى رواية ألف ليلة وليلة. ترى بيرسا كوماتسي، أن نجيب محفوظ، من أهم الكتاب الذين وصلوا جسرا ما بين العالم العربي والعالم، فهو لم ينس في كتاباته، تقاليد العالم الذي يعيشه ويصوره عبر كتاباته، ولا القاهرة وشوارعها وأزقتها وغيرها من العناصر شديدة الخصوصية.
ومن المميز في كتاباته، ربط الحياة اليومية بأحداث التاريخ، ومنطقة الشرق الأوسط بالقاهرة، فلا توجد لحظة تاريخية مهمة، إلا ونجدها عبر أعماله، مبينا حتى الأحداث البسيطة، التى غالبا لا ينتبه إليها حتى الباحثون في التاريخ.
تشير بيرسا كوماتسي، إلى أن أبطال محفوظ الروائيين، دائمًا شخصيات فاتنة، يحيطون بجاذبية خاصة لدى المتلقي، لكنهم دون استثناء حتى هؤلاء الذين لم يكن لهم جاذبية كبيرة، الناس تتعرف عليهم كونهم شخصيات مركبة متعددة الأبعاد، ومن الواضح أنه يحلل الشخصيات التى يكتبها ويتفاعل معها، غالبيتهم أيا كانت طبقاتهم الاجتماعية، شخصيات متفجرة، لكن قوتهم تنحنى أمام صعوبات الحياة.
بالنسبة للمَعْلم الأبرز في كتابات محفوظ،- كما ترى بيرسا كوماتسي – يبقى الإنسان هو المَعْلم الأبرز بكل ما يحمله، مؤكدة، أن عالم نجيب محفوظ بالنسبة لها، هو صورة مصغرة للعالم، لو نزعنا المحيط والعوالم الخارجية، نقف أمام الواقع الذي نتعرف عليه أينما كان وأينما عاش، إن فن الكتابة لدى محفوظ، لا يهدف فقط إلى جماليات الكتابة، أنه على التوازي يهدف إلى موضوعات عالمية وفلسفية.
وأشارت بيرسا، إلى أن أعمال محفوظ، تترك لدى القارئ، رد فعل إيجابيا، بالرغم حتى من استخدامه الرمزية والأسطورة، وصولا إلى الأفكار الفلسفية، فهو يغوص في أعماق الإنسان، ليعلي من إنسانيته مرة، ومن حماقاته مرة أخرى. واخيرًا دراسته للفلسفة الشرقية، يأخذها كنقطة انطلاق في مجمل أعماله، سواء في قصصه، أو رواياته، فلسفته تتجاوز كل الحدود، فهى تخضع لقيم إنسانية، وتشير إلى فكر عالمي شامل، هو يثير الأمر بطريقة غير مباشرة عبر أعماله، التى عمادها الإنسان.
وتؤكد أن قراءاتها لأعمال نجيب محفوظ، وترجمتها لها، أثرت فيها لدرجة أنها بالفعل، كتبت قصة واقعية عن رحلتها الطويلة في ترجمة أعمال أديب نوبل.
الكاتبة اليونانية بيرسا كواتسي
مواقف مع صاحب نوبل
أما الروائي الكبير إبراهيم عبدالمجيد، فأشار في كلمته إلى أن هناك العديد من المحطات الاساسية في حياته، لعب نجيب محفوظ دورا محوريا فيها، فعندما كان في السادسة عشرة من عمره قرأ كفاح طيبة، وانشغل عنه حتى المرحلة الثانوية، ومن ثم بدأ يقرأ خان الخليلي، وبين القصرين والسكرية، ومن هنا تغيرت حياته تماما، فبدأ مبكرا بكتابة رواية، تشبه ما كان موجودا فى تلك الفترة، محتفظا بها لنفسه. ومن بعد قراءته لمحفوظ، أصبحت القاهرة جزءا عالقا بالروح، لدرجة أن كل الأماكن التى كتب عنها محفوظ في أعماله الروائية، كانت محط اهتمامه، وكانت تلك المحطة الأولى في أن يقرر العيش بالقاهرة.
وأضاف «عبدالمجيد»، يبدو أن أعمال محفوظ، لم يكن فقط أثرها في أن انتقل إلى مدينة القاهرة، بل امتدت لأن تكون معي حتى فى أعمالي الروائية، ففى رواية خان الخليلي، استدعيت أحد أبطالها وهو «رشدي»، الذي مات بمرض السل، استدعيته فى إحدى رواياتي «لا أحد ينام في الاسكندرية»، باسمه فقط، لأن له حياة أخرى مختلفة تماما عن سياق ما قدمه محفوظ فى خان الخليلي.
يقول إبراهيم عبدالمجيد، «فى أحد أيام عام 1992 حلمت بحلم، واستيقظت من النوم، كتبته قصة تحت عنوان «تحت المظلة 2000»، وجدت أن العنوان تشابه تماما مع مجموعة نجيب محفوظ القصصية تحت المظلة، وكذلك في سياق الرمزية والسوريالية وعالمها، مشيرا إلى أن ثلاثيته عن الاسكندرية، جاء الفضل فى كتابتها من ثلاثية نجيب محفوظ، الفرق يكمن فى تتابع الأجيال لدى محفوظ».
الروائي إبراهيم عبد المجيد
ولفت «عبدالمجيد»، إلى أن هناك بعض الأشياء على المستوى الشخصي والإنساني، جمعته بنجيب محفوظ، منها أنه لم يكن من جلساء نجيب محفوظ، إلا انه كان على تواصل معه من وقت لآخر، وبعد إصابة «محفوظ»، أُجرى حوار صحفي معه، وسأله المحاور ماذا قرأت من أعمال روائية بعد إصابتك؟ قال قرأت رواية «لا أحد ينام فى الاسكندرية».
ومن المصادفة، أن يكون إبراهيم عبدالمجيد، أول من تحصل على جائزة نجيب محفوظ، التى تقدمها الجامعة الأمريكية بمصر، مناصفة مع الراحلة لطيفة الزيات، وقد هوجم وقتها، واتهم بالعمالة، إلى أن جاء الرد من نجيب محفوظ على هؤلاء المتحاملين على الفائزين بالجائزة.
وقال أديب نوبل حينها: «الاعتراض على جائزة تحمل اسمي هلوسة، والكاتبان المتحصلان على الجائزة، لطيفة الزيات وإبراهيم عبدالمجيد، لهما دورهما وتأثيرهما فى الواقع والمشهد الثقافي المصري والعربي»، ظلت سيرة «عبدالمجيد»، على لسان الأستاد محفوظ، كواحد من الكتاب الذين يحب كتاباتهم.
اختتم إبراهيم عبدالمجيد كلمته، بأن نجيب محفوظ وغيره من أساطين الكتابة فى مصر، هم من جيل الليبرالية، جيل نجيب وطه حسين وتوفيق الحكيم، الذين استمدوا مكانتهم عبر كتاباتهم وإبداعهم لا عبر وسطاء. ومن المصادفات الأخرى التى التقى فيها إبراهيم عبدالمجيد مع محفوظ، أن كليهما من مواليد برج القوس.