رؤى

زيد بن حارثة.. أحبُّ الناس إلى قلب الحبيب محمَّد!

حِب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهدته السيدة خديجة للرسول أول زواجهما، وقد كان زيد في الخامسة عشرة من عمره أو أقل قليلا.. لازم الرسول منذ ذلك اليوم كظله؛ بعد أن تعلّق قلبه بالصادق الأمين، حتى أن عين زيد لا تكاد تطيق ألا ترى رسول الله أو تغفل عنه.. ليلة نزول الوحي لأول مرة.. كان بالبيت وسمع من رسول الله ما سمعته السيدة خديجة؛ فكان أول من أسلم من الرجال.. وكان معه علي بن أبي طالب، وكان في الثانية عشرة، فكان أول من أسلم من الفتيان.

تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها: “ما بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة في جيش قط إلا أمّره عليهم، ولو بقي حيّا بعد رسول الله لاستخلفه”.

لهذه الدرجة بلغت منزلة زيد في نفس الحبيب محمد.. منزلة لا تقاربها منزلة.. وليس لزيد مثيل في الوفاء والإخلاص لرسول الله.. فقد كان له بمثابة الابن البار والصديق المُقرَّب.

تصف الكتب زيدا بأنه كان قصيرا شديد السمرة في أنفه “فطس” لكنه كان جامعا لكل فضيلة، ينأى بنفسه عن الشواغل وما لا يليق بالرجال.. وكان رسول الله ملء حياته.

كان زيد قد اختطف صغيرا من ديار بني معن أهل أمه، عندما أغارت عليهم خيل لبني القين بن جسر الذين باعوا الصبي في سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام الذي أهداه بدوره إلى عمته السيدة خديجة.. لتختار الأقدار لزيد أن ينشأ في بيت خير البرية؛ ليكون فيما بعد علما من أعلام الإسلام ورمزا للبطولة والفداء.

وكان حارثة شاعرا وقد اِلتاع الرجل لوعة شديدة لفقد ولده؛ فجاب الأرض منشدا شعره في طلب زيد؛ حتى جاء ذات يوم إلى حارثة رجال كانوا في الموسم، وقد رأوا زيدا وعرفوه، فشد حارثة الرحال إلى مكة حيث التقى برسول الله الذي أكرم وفادته، ونادى زيدا وخيّره بين اللحاق بقومه والمُكث عنده؛ فاختار البقاء مع رسول الله الذي “أمسك بيد زيد، وخرج به الى فناء الكعبة، حيث قريش مجتمعة هناك، ونادى “اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني وأرثه”. وكاد قلب حارثة يطير من الفرح.. فابنه لم يعد حرّا فحسب، بل وابنا للرجل الذي تسمّيه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها.. وعاد الأب والعم الى قومهما، مطمئنين على ولدهما الذي تركاه سيّدا في مكة، آمنا معافى، بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل، أم غاله الجبل؟ كما أنشد في شعره.. تبنّى الرسول زيدا.. وصار لا يعرف في مكة كلها الا باسمه هذا زيد بن محمد “. حتّى حرّم الله التبني فدعي زيد بن حارثة.

 وكان من حب الرسول لزيد وإيثاره إياه أ، زوّجه من ابنة عمته زينب، “ويبدو أن السيدة زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترغب بنفسها عن نفسه.. ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر، وتستنفد عوامل بقائها، فانفصل زيد عن زينب. وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسئولا عن امضائه، والذي انتهى بالانفصال، فضمّ ابنة عمته إليه واختارها زوجة له، ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة.. وذهب الشانئون يرجفون في المدينة: كيف يتزوّج محمد مطلقة ابنه زيد؟ فأجابهم القرآن مفرّقا بين الأدعياء والأبناء.. بين التبني والبنّوة، ومقررا إلغاء عادة التبني، ومعلنا: “مَا كاَنَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم، وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ، وَخَاتَمَ النبين”. وكان مما زاد الاسم رفعة وشرفا أن كان الاسم الوحيد بين أسماء الصحابة الذي ورد ذكره في القرآن الكريم.. في تلك القصة.

كثيرا ما أمّر رسول الله زيدا على المدينة عند خروجه للغزو.. كما أمّره في كثير من السرايا والبعوث، لما عُرف عنه من مواهب عسكرية وقدرة على القيادة والمناورة دفاعا وهجوما.. أمّا في الرمي فلم يكن زيدا بالذي يُقارن.

كما كان زيد من أبطال بدر والصامدين في الخندق وكان حاملا في تلك المعركة لواء المهاجرين.. وفي العام الثالث للهجرة أمّره رسول الله على سرية عُرفت بسرية القردة، عندما اعترض المسلمون عيرا لقريش وغنموا وأتوا بالدليل إلى رسول الله فأسلم بين يديه فأطلقه، ثم سرية إلى بني سليم بالجموم، ثم أميرا على سرية إلى العيص في العام السادس الهجري، وكانت لاعتراض عير لقريش، غنم المسلمون فيها وأسروا عددا من الرجال، ثم على رأس سرية إلى الطرف، وأخرى إلى حسمى عندما أقبل دحية بن خليفة الكلبي من قيصر الروم بمال وكسى؛ فتعرّض له ناس من جذام بحمسى فأخذوا ما معه؛ فشكا أمرهم إلى رسول الله الذي بعث إليهم زيدا في جمع من المسلمين؛ فقاتلوهم وغنموا منهم ما أخذوه.

وكانت إمارته السادسة في سرية أم قرفة في وادي القرى في شهر رمضان من العام السادس الهجري، عندما أغارت بنو فزارة على تجارة احتملها زيد لبعض أصحاب النبي إلى الشام، فلم عاد إلى النبي جهز له قوة خرج على رأسها فأدرك القوم وقاتلهم حتى اندحروا.

ثم كان استشهاده رضي الله عنه وأرضاه في غزوة مؤته على حدود الشام؛ عندما أمّره الرسول على جيش قوامه ثلاثة آلاف مجاهد لقتال الروم ومن لحق بهم من الغساسنة وكان جيش الأعداء يربو على المئتي ألف كما ورد في بعض الروايات، وقد أمّر الرسول من بعده جعفر بن أبي طالب حال استشهاده، ثم عبد الله بن رواحة في حال استشهاد جعفر.. فاستشهد القادة الثلاثة بعد أن ضربوا أروع أمثلة البطولة والتضحية.. ثم اختار الجند خالد بن الوليد قائدا لهم.. فنفذ عملية انسحاب خدع بها الروم وجعلهم يتراجعون مؤثرين السلامة.

استشهد زيد وقد ناهز الخمسين بعد حياة لم تعرف الراحة أو الدعة؛ بل كانت جهادا متصلا دافعه الحب والإخلاص لله ورسوله.. رضي الله عن سيدنا ومولانا زيد بن حارثة وألحقنا به في مستقر رحمته.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock