رؤى

الأمية في مصر.. عندما يصبح الجهل سلاحا في يد المحتل لقهر الشعوب

ظل التعليم منذ القدم هو الأساس الذي تعتمد عليه كل أمة، من أجل إصلاح حاضرها وصناعة مستقبلها، وعندما سُئل المستشار الألماني الشهير بسمارك عن سر انتصارات بلاده على فرنسا في عام 1870، أجاب بأن الفضل في ذلك يرجع إلى المدرسة.

وفي كتابها “الأمية في مصر 1923 – 1952” تكشف آية سمير غريب الكثير، وهى ترصد ظاهرة الأمية في مصر من الجذور، وتشير إلى أن الانتشار الكبير لها بين المصريين؛ لم يكن مصادفة على الإطلاق، وإنما كان متعمدا من أطراف عدة؛ حتى تظل البلاد تدور داخل حلقة مفرغة من الجهل والمرض، الذي يُبقى أهلها دوما تحت السيطرة، ويُصادر حقهم المشروع في الحلم بغد أفضل.

وتضيف “في عام 1930، كانت مصر تحتل المركز الأول بين دول العالم في معدلات استشراء الأمية بنسبة 88%، بينما كانت تقدر في دولة عربية أخرى مثل سوريا بـ 80%فقط” وتشير إلى أن جذور المشكلة موغلة في القدم فقد “أصاب مصر الجمود والتخلف طوال فترة حكم العثمانيين، وأجمعت المصادر التاريخية على أن هذا التخلف بلغ مداه في القرن الثامن عشر، ما دفع الرحالة الفرنسي “فولني” إلى أن يصف حال مصر في تلك الفترة بقوله: الجهل في هذه البلاد عام مثل سائر البلاد التركية”.

الحملة الفرنسية

وتكمل “كان دخول الحملة الفرنسية، بمثابة صدمة حضارية للمجتمع المصري؛ أظهرت حقيقة تخلفه عن ركب الحضارة الغربية، إذ لم يكن بمصر من معاهد التعليم إلا الأزهر، وعدد من الكتاتيب المخصص لها أوقاف خيرية لتعليم الأولاد القراءة والكتابة والقرآن، ومع خروج الحملة الفرنسية تتابعت الأحداث، وظهر محمد علي واليا.. وبمجرد أن تولّى الحكم أدرك أن عظمة الأمم الغربية، وبخاصة الإنجليز والفرنسيين، كانت بسبب نشاطهم في مجال العلم والصناعة والتوسع السياسي والاقتصادي، وكان نتيجة جودة نظمهم الحربية. نظر محمد على إلى الأمور بناء على أهميتها بالنسبة للجيش، وهذا ما جعله يهتم أولا بالمدارس العليا، وكان أول ما فكر فيه، مدرسة المهندسخانة التي أسسها عام 1815، في القلعة لتخريج مهندسين للجيش وللقيام بأعمال العمران في البلاد أيضا”.

“في عام 1827، أسست مدرسة الطب في أبي زعبل، كما أسست مدرسة الالسن في الأزبكية في عام 1837، ومدرسة الطب البيطري عام 1839، ورغم أن محمد على بدأ النهضة التعليمية؛ فإن نظامه التعليمي كان به بعض العيوب، منها أنه بدأ من أعلى إلى أسفل، وفرّغ التعليم الديني من عناصره، كما أن سياسة محمد علي لم تكن تهدف إلى التوسع في التعليم، وإنما اكتفت بتعليم الأعداد التي تحتاج إليها الحكومة والجيش، ففي عام 1831، كتب إلى ابنه إبراهيم ينصحه بأن ينظر فيما تعانيه أوروبا من تعليم العامة.  وفي عام 1841، كونت لجنة  لدراسة أحوال التعليم؛ قررت الحد من النشاط التعليمي، حيث أبقت على المدارس الخصوصية؛ ولكن قللت أعداد تلاميذها”.

في عام 1854، تولّي سعيد حكم مصر،  وكان على الرغم من ميله الشديد للغرب؛ فإنه كان قليل الرغبة في تعليم رعيته.. وتقول المؤلفة بهذا الشأن “عندما تولّى إسماعيل الحكم كانت معظم المدارس التى أنشاها محمد على مغلقة؛ لذلك قام بإعادة تكوين ديوان المدارس.. وفي عام 1868، فكّر على مبارك في تحويل التعليم بالكتاتيب إلى تعليم ابتدائي،  وفي عام 1872، تأسست دار العلوم، وكانت أول مدرسة لإعداد المعلمين في مصر، أما فيما يتعلق بالمرأة فقد أسهمت آراء رفاعة الطهطازي في رقيها، حيث أنشئت أول مدرسة للبنات في عام 1873، وكان التعليم فيها مجانا”.

الخديوي إسماعيل
الخديوي إسماعيل

ويكشف كتاب “الأمية في مصر” عن الدور الكبير الذي لعبه الاستعمار البريطاني في انتشار الجهل في مصر، وفي هذا الصدد تقول المؤلفة “لاحظ الإنجليز أن الارتفاع الكبير في مستوى التعليم، وما يعقبه من إحلال المدرسين المصريين محل الإنجليز؛ قد ينقص تدريجيا من دورهم كأوصياء على البلاد؛ لذا قرر الاحتلال إلغاء الإعفاء من المصروفات المدرسية، حيث أصبح التعليم مقصورا على الأغنياء، كما أغلقت أبواب العديد من المدارس وأصبحت الإنجليزية لغة التعليم منذ عام 1897، وسيطر الإنجليز على الوظائف الرئيسية، بينما تولّى المصريون الوظائف الثانوية، وخصص الاحتلال ميزانية زهيدة للتعليم، ونتيجة لذلك تضاعفت الأمية في صفوف المصريين.. ففي عهد كرومر كان 8 % من المصريين و2% من المصريات فقط من يعرفون القراءة والكتابة”.

وتضيف آية سمير في كتابها “بعد وقوع حادث دنشواي وإقالة اللورد كرومر، زاد وعي المصريين بأهمية التعليم،  وإزاء غضبهم الشديد عمل الاحتلال على إرضائهم، ففصل نظارة المعارف عن نظارة الأشغال، وعُيّن سعد زغلول أول ناظر لها، وكان أول جهوده إعادة تدريس اللغة العربية،  وفي عام 1906، كانت نسبة الذين يتلقون التعليم في المدارس لا تزيد عن 25% من عدد السكان، وراح سعد زغلول  يطوف الأقاليم لتشجيع الشعب على التعليم”.

يعتبر الكتاب – هو في الأصل رسالة ماجستير- بحثا علميا شاملا وموثقا بالأرقام، التي لا تكذب ولا تتجمل ولا تزور الوقائع التاريخية، وقد استطاعت المؤلفة تقديم صورة بانورامية، لما اصطلح على تسميته بالفترة الليبرالية في مصر، وأسباب تفشي الأمية وارتباطها بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المزرية، التي كان يعيش فيها غالبية المصريين.. وهو ما يبدد كثيرا من الأوهام حول تلك الفترة التي يصر البعض على المبالغة في إيجابياتها بغض النظر عن الوقائع الموثقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock