رؤى

نبوءة توينبي.. وهزيمة العرب الكبرى!

“لا يستطيع أحد ـ حتى أشد أعداء الوحدة العربية ـ أن ينكر أن الوحدة ستتحقق خلال 12 أو 13 سنة القادمة”.

هذا التوكيد، صدر عن المؤرخ والفيلسوف البريطاني أرنولد توينبي في مقال له في جريدة “الأهرام” (17/ 1/ 1962) عن “مصير الوحدة العربية بعد انفصال سورية عن الجمهورية العربية المتحدة”.

وقد حدد توينبي الأجل الزمني لتحقيق نبوءته بـ 12 أو 13 سنة، بعد أن حسب أن توحيد ألمانيا وإيطاليا في القرن التاسع عشر استغرق 56 عامًا، ومفترِضًا أن تحقيق الوحدة العربية لن يحتاج ـ بدورة ـ إلى أكثر من هذا العدد من السنين.. وبما أن الحركة باتجاه تحقيق الوحدة العربية، كانت قد بدأت عقب “الحرب الأوروبية الأولى” (1914 ـ 1918) فإن الحد الأقصى لانتصارها لن يتعدى عام 1974. وعلى أساس هذا الحساب، وفي أطروحته “الوحدة العربية آتية: 1962″، قال توينبي: “للعرب من الوقت حتى سنة 1974، كي ما ينجزوا وحدتهم بنفس سرعة الألمان والإيطاليين. ولا يمكن حتى لألد أعداء العرب أن يضمن أن وحدتهم لن تكون قد أنجزت في ذلك التاريخ”.

المفارقة الكبرى

وقد انقضت الآن، لا “الـ 12 أو 13” سنة، فحسب، بل نصف قرن من الزمان؛ ولا يكفي أن نقول أنه ليس في الأفق ما يشير إلى أن نبوءة توينبي قابلة للتحقيق في مستقبل منظور. وربما ينبغي أن نضيف أن “فكرة” الوحدة العربية ـ وليس إمكانية تحقيقها فقط، كـ”مشروع” ـ قد أصبحت، منذ أن أطلق توينبي نبوءته، في غياهب النسيان.

لا.. بل أن المقارنة الأكثر دراماتيكية، والجديرة بالتأمل ـ الجاد ـ هنا، أن الفترة التي حددها توينبي كـ”نهاية” (أو: كـ”حد أقصى”) لنضال العرب من أجل إنجاز وحدتهم، المنشودة؛ كانت هي، ذاتها، الفترة التي مثلت الـ”بداية” لهزيمة العرب الكبرى.

ففي المدة من عام 1957 إلى عام 1979 حلت بالعرب، “كل العرب”، أبشع هزيمة وأكثرها تدميرًا في تاريخهم كله؛ أكثر بكثير من هزيمتهم أمام الفرنجة “الصليبيين”، الذين اغتصبوا الأرض وأقاموا الممالك قبل أن ينهزموا بعد قتال استمر نحو قرن من الزمان.. أكثر بكثير من هزيمتي 1948 و1967 مجتمعتين.

كيف كان ذلك؟ الهزيمة، هي “التخلي عنوة عن هدف تكتيكي أو استراتيجي”؛ أما الاستسلام، فهو”قبول التخلي عن هدف تكتيكي أو استراتيجي بدون صراع”. هذا يعني، في ما يعنيه، أن الهزيمة والاستسلام، كحالتين من حالات الصراع، أي صراع، متفقتان ومختلفتان في آن: هما متفقتان من حيث أن كلٍ منهما تُمثل “التخلي عن هدف تكتيكي أو استراتيجي”؛ لكنهما مختلفتان، وذلك بالنسبة إلى الأسلوب الذي تحدث به كل حالة.

فإذا كان هذا التخلي (عن الهدف) قد حدث “عنوة” كانت الحالة هزيمة، أما إذا حدث “قبول” التخلي عن الهدف “بدون صراع” فهو استسلام. ويصبح من النافل القول هنا، أن كلتا الحالتين تمثلان هزيمة، للطرف الذي تخلى عن هدفه، بل ويكون الاستسلام هزيمة أكبر.

إلا أن ما تنبغي الإشارة إليه، والتأكيد عليه في الوقت ذاته، أن الفارق بين الهزيمة والاستسلام يبدو دقيقًا على المستوى التكتيكي؛ إذ قد يجري الانسحاب بدون قتال من موقع تكتيكي نتيجة لتقدير القيادة لموازين القوى، وتجنب خسائر محققة. هذا ليس استسلامًا ولكنه “مناورة”، واحدة من الفنون التي يجيدها الراسخون في علم الصراع وفنونه، وقد تكون مناورة الانسحاب والتخلي عن الأرض، بل حرقها وتدميرها أبدع “تاكتيك” يخدم الهدف الاستراتيجي، كما فعل الروس مرتين أمام نابليون وأمام هتلر.

لكن الفارق بين الهزيمة والاستسلام يبدو بوضوح حين تقع الهزيمة على المستوى التكتيكي، فيحدث التراجع على المستوى الاستراتيجي؛ فتقبل وتتبني نظرية المعتدين، وهو هنا استسلام لأنه ليس النتيجة اللازمة للهزيمة، فليس من شأن الهزيمة في المعارك التكتيكية (أي الجزئية أو المرحلية)، أن تحسم المعركة على مستواها الاستراتيجي. وبالتالي، يكون التراجع على هذا المستوى الأخير غير مبرر، أي تراجع بدون صراع، أي استسلام. كما أن الهزيمة حتى على المستوى الاستراتيجي لا تعني أن الصراع قد حسم، وإنما يحسم فقط حين يتبنى المنهزمون نظرية المنتصرين.

النتيجة التي يمكن الخروج بها من هذا الاستطراد، تتمثل في جانبين، الأول: إن الهزيمة (بكل ما تحمله الكلمة من معنى) لا تحدث قط، ولم تقع على مدى تاريخ الشعوب قط، في معركة تكتيكية أو مرحلية؛ أما الجانب الأخر، فهو أن هزيمة أحد طرفي الصراع تقغ حين يتنازل هذا الطرف عن هدفه الاستراتيجي، أي يستسلم. ومن المنطقي أنه بقدر ما يقترب الطرف المستسلم من تبني نظرية خصمه في الصراع، بقدر ما تكون هزيمته أكبر، وأفدح.. بل وأكثر تدميرًا.

وفي تاريخ الصراع بين “العرب.. ودولة الاحتلال” نقصد الصراع في بُعده العسكري، تبدو هذه النتيجة (بجانبيها) بأكبر قدر من الوضوح.

لقد هزمتنا الصهيونية عام 1948، واحتلت جزءًا من فلسطين أقامت عليه (على جزء من الأرض العربية) “الدولة العبرية”؛ وفي عام 1956، خرجت من المعركة مسيطرة على مياهنا “الإقليمية” في خليج العقبة؛ وهزمتنا عام 1967، واستولت على بقية فلسطين (الضفة وغزة) وسيناء ومرتفعات الجولان.

وفي مقابل هذا، كنا ندرك أن تلك هزائم تكتيكية، ونعد العدة لاستئناف المعارك. ففي عام 1967، أدرك عبد الناصر مستوى الهزيمة بالرغم من جسامتها، وقدم مثالًا رائعًا للقائد الذي يعرف طبيعة المعارك التي يخوضها. فبعد شهرين فقط من الهزيمة ـ الجسيمة ـ رفع شعار “ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”؛ وبعد أقل من ستة أشهر استؤنف القتال تحت اسم “حرب الاستنزاف”، وذلك في إطار من الإجماع العربي على أن “لا مفاوضة، لا صلح، لا اعتراف”.

وفي العام ذاته (العام 1967)، سُئل وزير خارجية إسرائيل حينذاك، أبا إبيان، عما كانت الصهيونية ستفعله لو نجح العرب في تدمير إسرائيل؛ فقال: كنا سنبدأ من جديد لإقامة الدولة.. وكان كلاهما يعبران عن السمة التكتيكية للنصر الصهيوني والهزيمة العربية عام 1967.

غير أن الأمور لم تجرِ على هذا المنوال..

فبعد نصر أكتوبر 1973، الذي كان نصرًا في موقعة تكتيكية، لم يُحسم الصراع فيها بين “العرب.. والكيان الصهيوني” على المستوى الاستراتيجي، ولكنه مهّد لحسمه لصالح العرب؛ وبدلا من مواصلة الصراع، و”التقدم” على طريق تحقيق الهدف الاستراتيجي العربي، حدث ما لم يكن متوقعا.. إنه شيء يشبه الميلودراما في عالم السينما هذا الذي حدث؛ إذ إن العرب، بطريقة غريبة على التاريخ، غريبة على الشعوب، غريبة على تاريخ الشعب العربي بالذات، انتقلوا من نصر تكتيكي إلى استسلام مبدئي -استسلام على مستوى المبدأ- موفرين على العدو عناء الصراع على المستوى الاستراتيجي. وبهذا الانتقال بدأت “هزيمة العرب الكبرى”.

إنها البداية (بداية الهزيمة)، التي تحققت في مصر العربية في تواريخ متتالية.. اتفاقية فض الاشتباك في أول سبتمبر 1975، ثم اتفاقيات كامب دافيد في 17 سبتمبر 1978، ثم الاتفاقية المسماة اتفاقية السلام في 26 مارس 1979.. وبها، تحققت الملامح الأولى لهزيمة العرب، “كل العرب”، باعتراف “حكومة مصر” بـ”دولة الاحتلال” ومطالبتها إياهم (العرب) بأن يعترفوا بها.

نسميها هزيمة لـ”كل العرب”، من ناحية، لأنه لا يوجد في الوطن العربي دولة أو نظام أو حزب أو جماعة أو منظمة، لم تسهم إيجابيًا أو سلبيًا في تداعي الأحداث على الساحة العربية، تداعيًا أدى إلى “اعتراف حكومة مصر بدولة الاحتلال “، ومطالبتها العرب أن يعترفوا بها.

كلهم مذنبون ـ بالاشتراك عن طريق التحريض أو المساعدة أو الاتفاق، بالفعل أو بالامتناع عن الفعل ـ في الهزيمة التي وقعت بهم جميعًا في مصر العربية.

ونسميها هزيمة لـ”كل العرب”، من ناحية أخرى، لأنه لم تكن تمضي عشر سنوات إلا وكانت الأنظمة العربية تهرول ـ على نفس الدرب ـ درب “الاعتراف بالكيان الصهيوني”.

وأخيرًا..

نقول هذا، بمناسبة ما يحدث في هذه اللحظة من ملابسات تخص مُطالبة البعض للمقاومة الفلسطينية، بقبول الشروط الأمريكية والإسرائيلية لوقف العدوان الغاشم على قطاع غزة. فإلى من لا يُعجبهم إصرار المقاومة على “وقف الحرب أولًا”.. عودوا إلى دروس التاريخ.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock