رؤى

«الوليد والمأمون».. الخلافة بين اغتيالين

بالرغم من الفروق الواضحة بين دولة  بني أمية ودولة بني العباس والتي ليس أقلها أن الثانية قامت على أنقاض الأولى٫ إلا أن بين الدولتين الكثير من أوجه الشبه.

وفي مقدمة هذه الأوجه أن كلتا  الدولتين كانتا معبرتين عن حكم وراثي اختار “المُلك العضوض” اسلوباً لانتقال السلطة بدلاً من نظام الشورى واختيار الأمة الذي ميز دولة الخلافة الراشدة في المدينة.

الاغتيال .. وبداية الانهيار

ومن اللافت أيضاً – وهو أمر تتشابه كلتا الدولتين فيه- أن لحظة الضعف والهوان وبداية الانهيار لكليهما أتت – وياللمفارقة- بعد أن بلغت كلاهما أوج القوة والتوسع٫ ويمكن تحديد هذه اللحظة التي بدأ فيها تهاوي البيت الأموي والعباسي على حد سواء باللحظة التي قرر فيها أعضاء في كلا البيتين اغتيال الخليفة.

حيث أن دولة بني أمية كانت في قمة عنفوانها في عهد الخليفة هشام بن عبد الملك  عاشر خلفاء بني أمية والذي حكم نحو عشرين عاماً  وصلت  فيها جيوش الدولة  إلى كل من القسطنطينية شرقاً والأندلس غرباً٫ بل سعت الى التوسع في أوروبا في محاولة أُجهضت في مهدها واستُشهد قائدها عبد الرحمن الغافقي في موقعة بواتيه في فرنسا أو كما أسماها العرب معركة “بلاط الشهداء”.

https://www.youtube.com/watch?v=QHMUJj7kL4E

الا ان عهد هشام في الوقت ذاته لم يختلف عن أسلافه من بني أمية في قمع المعارضين لحكمهم وفي مقدمتهم بطبيعة الحال شيعة علي بن أبي طالب٫ بل إنه شهد قمعاً دموياً لثورة قادها الإمام زيد بن علي زين العابدين٫ حفيد الإمام الحسين٫ في الكوفة أسفرت عن استشهاد الامام زيد.

وكما جرت العادة٫ فإن الحاكم القوي يخلفه عادة حاكم ضعيف٫ فآلت السلطة بعد وفاة هشام بن عبد الملك إلى ابن أخيه الوليد بن يزيد٫ وهو شاب لم يختلف المؤرخون على رجل يوماً كما اختلفوا عليه.

فهو عند بعض المؤرخين متهم بالفسق والفجور واللواط والعُكوف على شرب الخمر والغناء بل أن بعضهم ينقل عن أخيه قوله إنه حاول أن يراوده عن نفسه!!.

إلا أن البعض الاخر مثل المؤرخ ابن الأثير ينفي عن الوليد هذه الصفات ويؤكد انه كان “عفاً ذا مروءة وكان ينهى الناس عن الغناء لأنه يزيد في الشهوة ويهدم المروءة” ثم يقول : “وقد نزه قومٌ الوليد مما قيل فيه وانكروه ونفوا عنه، وقالوا : انه قيل عنه وليس بصحيح” .

https://www.youtube.com/watch?v=JH-rQbtWov8

ثم يصل ابن الاثير الى بيت القصيد حين يعتبر أن هذه التهم مختلقة ونسبت إلى الوليد بن يزيد من قِبَل أعضاء في البيت الأموي عقب مقتل هذا الأخير والسبب في ذلك هو أن الوليد عصف حين تولى السلطة بأولاد هشام بن عبد الملك وعلى رأسهم سليمان بن هشام الذي ضربه مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته ونفاه إلى عمان فحبسه بها.

كان من الطبيعي ان ينقم بنو أمية ومعهم جنود اليمانية – أي قبائل جنوب الجزيرة العربية- والذين كانوا يمثلون أغلب جند الشام حينها على هذا الخليفة الذي أضاع هيبتهم ووقارهم فرتبوا لخلعه وتولية ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك.

وبفضل الجنود اليمانية تمكن معارضو الوليد من السيطرة على دمشق عاصمة الدولة وساعدهم على ذلك وجود الوليد في حصن بعيد عن دمشق٫ ثم حاصروه في ذلك الحصن وقتلوه٫ مُحدِثين بذلك سابقة في تاريخ بني امية٫ اذ كانت أول مرة يُقتل فيها خليفة منهم وعلى يد بعض أهله٫ ولعل الوليد أدرك مدى خطورة هذا الاغتيال فكانت آخر كلماته لقاتليه : “أما والله لئن قُتلت لا يُرتق فتقكم ولا يُلَّم شعثكم ولا تجتمع كلمتكم”.

https://www.youtube.com/watch?v=79F0_ScUYBg

موت ..”الظروف الغامضة”!

سعى الخليفة الجديد٫ يزيد بن الوليد٫ الى تدارك الأمر من خلال صياغة خطاب بدا فيه واضحاً تأثره بسياسات الخليفة العادل عُمر بن عبد العزيز٫ مؤكداً حق الأمة في المال العام وقال: “أيها الناس إن لكم عندي إن وُليت ألا أضع لبنة على لبنة، ولا أنقل مالاً من بلد إلى بلد حتى أسدَ الثغور، فإن فضل -أي “فاض” – شيء رددته إلى البلد الذي يليه، حتى تستقيم المعيشة وتكون فيه سواء”.

وأضاف مؤكداً على حق الأمة في تولية الحاكم وعزله : “فإن أردتم بيعتي على الذي بذلت لكم، فأنا لكم، وإن ملت، فلا بيعة لي عليكم، وإن رأيتم أقوى مني عليها، فأردتم بيعته، فأنا أول من يبايع، ويدخل في طاعته”.

إلا أن حظ بني أمية العاثر أن عهد يزيد لم يدم سوى ستة أشهر ثم تُوفي في ظروف غامضة٫ وأعقبه مروان بن محمد الذي لم يستطع أن يصلح الرتق المتسع في البيت الأموي وكذلك بين اليمانية والقيسية (عرب شمال الجزيرة)٫ وكانت نهاية عهده ودولته على يد بني العباس عام ١٣٢ للهجرة.

https://www.youtube.com/watch?v=kz7mpSVO_0Y

ما أشبه الليلة بالبارحة

وشاءت الأقدار أن تشهد دولة بني العباس أحداثاً مماثلة  لتلك التي شهدتها دولة بني أمية ، فهذه الدولة التي بلغت أوج قوتها في عهد خليفتها الخامس هارون بن المهدي الملقب ب”الرشيد”٫ بدأت في الوهن في الوقت ذاته.

فرغم كافة مظاهر القوة والنهضة العلمية والثقافية التي عرفتها بغداد٫ مقر خلافة العباسيين٫ في عهد الرشيد الذي استمر نحو ٢٣ عاماً٫ إلا أن الرشيد كان يدرك مدى الانقسام في دولته بين الفرس الذين اعتمد عليهم أسلافه وبين العرب٫ بل ان الانقسام وصل الى بيت الرشيد نفسه بين ولديه الأمين٫ وهو ولده من زوجته العربية القُرشية زبيدة وبين ولده الآخر المأمون وهو ولده من جارية فارسية.

لجأ الرشيد الى حل وسط فعهد الى كلا ولديه بولاية العهد: الأمين أولاً ثم المأمون٫ إلا أن هذا الحل الوسط لم ينه الانقسام الذي أطل من جديد بعد وفاة الرشيد٫ ووصلت الأمور الى صراع بين الأخوين بعد أن قرر الأمين عزل المأمون من ولاية العهد.

وصل الصراع إلى ذروته مع تمكن جيش المأمون من اقتحام بغداد عام ١٩٥ للهجرة وقتل الأمين٫ لتكون أول سابقة اغتيال خليفة في عهد بني العباس.

https://www.youtube.com/watch?v=o-tX2sjlnRU

 ورغم أن المأمون الذي حكم بعد مقتل أخيه سعى إلى التبرؤ من دمه عبر عزل قائد جيشه المسؤول عن مقتل الأمين وتقديم نفسه على مدار عشرين عاماً باعتباره “الخليفة العالم” المسؤول عن نهضة علمية هائلة٫ إلا أن الوهن الذي أحدثه اغتيال الأمين على يد المأمون امتد إلى عهد خليفته المعتصم٫ الذي سعى الى تجاوز الخلاف بين العرب والفرس عبر الاستعانة بعنصر ثالث هم اخواله من التُرك٫ إذ كان ابن الرشيد من جارية تركية.

اهتم المعتصم باقتناء الجنود الأتراك وجلبهم من مناطق آسيا الوسطى مثل سمرقند وخوارزم، والأخطر من ذلك أنه أسقط اسم العرب من ديوان الجُند اي بعبارة اخرى منعهم من الخدمة العسكرية وقصر هذه الخدمة على الأتراك لأول مرة منذ عصر صدر الاسلام.

ولم يدر بخلد المعتصم أن الأتراك الذين استعان بهم كسلاح ضد العرب والفرس سيصبحون أخطر على خلافة بني العباس من كليهما٫ إذ بلغ نفوذهم في الدولة و استهانتهم بمنصب الخليفة أن قاموا باغتيال نجل المعتصم الخليفة المتوكل في ٢٤٧ للهجرة ليبدأ بهذا الاغتيال عصر شديد الاضطراب هو العصر العباسي الثاني الذي أصبح الخليفة فيه لقباً لا أكثر، و السلطة الحقيقية بيد القادة الأتراك يولون من يريدون ويعزلون من يريدون وانتهت سلطة الدولة المركزية وبدأت الأمصار بالانفصال تدريجياً لتخلق حالة من الضعف مهدت بشكل أو بآخر للحروب الصليبية.

يبدو اغتيال “الوليد” الأموي و”الأمين” العباسي أشبه بوجهين لعملة واحدة٫ ففي كلتا الحالتين كان اغتيال الخليفة تعبيراً عن بيت ممزق متناحر بلغت الخلافات فيه أوجها وألهتها صراعاتها الداخلية عن عدوها الخارجي لتبدأ الدولة بذلك رحلتها نحو التصدع والانهيار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock