رؤى

يونج .. صائد التنانين

قتل يونج عشرات التنانين، وإن كان واجه صعوبات وعراقيل كثيرة وضعها أصحاب التنانين أمامه، غير أنه تغلب عليها في كل مرة بمهارته وصبره، الغريب أن من واجهوه ليحولوا دون القضاء عليها شعروا بالامتنان نحوه بعد نجاحه في مهمته. أدرك أصحابها أنها لم تحمهم بل استنزفتهم وما أفادتهم يوما بشيء.

صائد التنانين هو غوستاف كارل يونج عالم النفس والتلميذ الأشهر لفرويد، أما التنين فيتعلق بفرضية قدمها يونج حول وجود مخزون للخبرات البشرية “اللاوعي الجمعي”، هذا المخزون الممتد لآلاف السنين يحوي صورا بدائية هي نتاج صراع الإنسان القديم مع العالم الخارجي، وتتحرر هذه الصور لدى الفرد من وقت لآخر عبر الأحلام لتعبر عن مكنون صاحبها بلغة أسطورية، ومن بين هذه الرمزيات الأسطورية رمزية التنين (حارس مغارة الكنز)، وهي تصور الأفكار والمعتقدات والتقاليد والمخاوف التي قد تحجز الفرد عن تحقيق رغبات مكبوتة لديه. هذا التعارض ينتج صراعا يعبر عن نفسه بصورة مرضية، وكان يونج ينهيه لدى مرضاه، بعيادته العلاجية، عبر قتل التنين.

الآلية التي اتبعها عالم النفس السويسري يونج رغم بساطتها كانت فعالة، فبعد أن يُخرج الصراع الداخلي إلى السطح ويوجه مرضاه إلى مسبباته لا يجد صعوبة حينها في تحييد الأفكار أو المعتقدات أو التقاليد التي فجرت الحالة المرضية.

 ****

في الصين وعلى مدار ما يقرب من ألف سنة انتشر تقليد بطول البلد الكبير يجبر المرأة ألا يزيد طول قدميها على 4 بوصات، فبحسب الاعتقاد السائد حينها كانت الأقدام الكبيرة للبنت تجلب العار لأسرتها ولبيت زوجها المستقبلي، ومن أجل دفع هذا الشر المستطير كانت الفتاة تتكبد معاناة بالغة لسنوات طويلة وربما طوال حياتها.

تبدأ المعاناة في سن صغيرة عندما تقرر الأم أن الوقت حان للف قطعة كبيرة من القماش الأبيض حول أصابع قدم طفلتها إلى باطن القدم، ثم تقوم بوضع حجر كبير فوقها لسحق قوس القدمين. الآلام الرهيبة والإغماءات المتكررة والصراخ والتوسلات للأم لم تكن تعفي الابنة من الربط المحكم، وبعد أن تتكسر العظام كان لابد من ربط القدم برباط سميك ليل نهار حتى لا تعود إلى شكلها الطبيعي، وتظل الطفلة تتشرب الألم على مدار سنوات طويلة بلا هوادة، لتحافظ على رباط قدميها السميك حتى بعد بلوغها سن الرشد وتوقف نمو القدمين، إذ يغطيها لحم متعفن تنبعث منه رائحة كريهة عند إزالة الرباط، ويمتد الألم بقية حياتها فلا تستطيع السير لمسافات طويلة إذ يتسبب في آلام مبرحة. هذه التجربة عاشتها مئات الملايين من النساء الصينيات.

تقليد سخيف بلا معنى وضعته إحدى جواري الإمبراطور غذاه الخضوع والجهل وتعطيل العقل أضحى تنينا مخيفا ينفث ألما في وجه نساء الصين عبر قرون، ولم يختف هذا التقليد إلا في بدايات القرن العشرين مع تسلل الأفكار الحداثية الغربية إلى البلد الشرقي الكبير.

 ****

النموذج الصيني ليس فريدا، فلا يخلو تاريخ أي حضارة من نماذج مشابهة، لكل منها تنانينها التي لا تعمل عبر اللاوعي فقط بل على مستوى الوعي أيضا، والضحايا شعوب بأكملها تعاني بسبب تقاليد وأفكار ومعتقدات يعتنقها الناس ويدافعون عنها رغم ما قد تكبده من آلالام. شعوب كثيرة وصلت لمرحلة النضج التي مكنتها من القضاء على أكثر تنانينها إلا أن أمما أخرى لا زالت تقف عند عتبة هذه المرحلة لم تتخطاها.

التخطي شرطه التخفف من قيود معتقدات وتقاليد هي بمثابة المرض المُقعد، لكن الأنف المزكومة لا تشم الرائحة الكريهة، لهذا يكون الأمل في بلوغ تلك المرحلة معدوما في ظل غياب أمثال يونج من صائدي التنانين.

****

التحرر من التنين لا يتطلب أكثر من إسقاط المعنى الموهوم عن المعتقد أو التقليد، وفي هذا المعنى يقص اسبينوزا موقفا تعرض له بعد ذيوع آرائه، فيذكر أن حاخاما جاءه ينصحه كي يتراجع عن أفكاره التي هدمت كثير مما يعتقد فيه حاخامات اليهود، وبعد أن ناقش الحاخام سبينوزا في دعوته التي تنتصر للعقل وترفض كل ما خالفه من أفكار حتى وإن عدها الحاخامات دينا، لمس الحاخام أن الفيلسوف الكبير لن يتراجع فقام من مجلسه، وأخرج من حقيبته شوفار (وهو بوق مقدس لدى اليهود مصنوع من قرن الكبش)، ليسأل اسبينوزا سؤالا حمل في طياته تهديدا: أتعرف ما هذا؟ (إذ كان النفخ في الشوفار يعني الحرمان الكنسي)، فأجابه سبينوزا بهدوء: نعم، أنه قرن كبش، فما كان من الحاخام إلا أن تراجع مذعورا وسقط أرضا.

إسقاط الرمزية المقدسة للشوفار واعتباره مجرد قرن كبش كان مفزعا للحاخام إلى أقصى حد، فبذلك نزع اسبينوزا عنه كل سلطة بعد أن سدد ضربة محكمة إلى تنينه الحارس فهوى أرضا  .

 

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock