ثقافة

الأخوات برونتي .. الإبداع من رحم العزلة

كان من المفترض أن تقبع قرية هاورث النائية، التابعة لمدينة يوركشاير الصناعية الكبرى، في غياهب التاريخ، مثلما كانت تقبع في غياهب الجغرافيا، حتى انتقلت إليها عائلة برونتي في عام 1820، فانجلت ملامحها الطبيعية والاجتماعية، وخلدتها كتابات الأخوات الثلاث، تشارلوت وإيميلي وآن، وعلى رأسها رواية إيميلي برونتي الشهيرة Wuthering Heights (مرتفعات وذرينج)، التي تعد واحدة من أهم كلاسيكيات الأدب الإنجليزي.

كانت العزلة الجغرافية للقرية جزءا من العزلة الاجتماعية لعائلة برونتي، التي أسهمت بشكل كبير في تكوين الشخصية الأدبية للأخوات الثلاثة. فقد ماتت الأم، ماريا برونتي، في العام التالي لوصول أسرتها إلى هاورث، مخلفة وراءها ستة أطفال في أعمار صغيرة متفاوتة، تتراوح بين 20 شهرا وسبع سنوات. على إثر ذلك، انتقلت إليزابيث برانويل، الأخت غير المتزوجة لماريا، إلى بيت القس، باتريك برونتي، لرعاية بنات أختها الصغيرات (لم يكن لهن سوى أخ واحد، هو بارنويل).

لم يمهل القدر العائلة المكلومة كثيرا بعد موت الأم. ففي عام 1825، حلت بالعائلة مصيبة جديدة بموت الشقيقتين الأكبر سنا، وهما ماريا (11 عاما)، وإليزابيث (10 أعوام) في غضون ستة أسابيع فقط بعد إصابتهما بمرض السل. وفي ظل هذه الظروف، انسحب الأطفال إلى عوالمهم الخاصة التي أبدعوها في مخيلاتهم، وعكفوا على وصفها في تجارب أدبية غضة وفريدة. ومن بين هذه العوالم نشأت مملكة “أنجريا” في روايات تشارلوت.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كان الأب، باتريك برونتي، رجل الدين الأنجليكاني الذي ينحدر من أصول أيرلندية، هو مصدر الإلهام الأساس لهذه الكتابات المبكرة. فعلى عكس ما كان شائعا في ذاك الزمان، كان باتريك يشجع أطفاله على القراءة، ويسمح لهم بقراءة قصائد “لورد بايرون”، التي كانت تتهم على نطاق واسع آنذاك بالخروج عن روح اللياقة والآداب العامة، كما كانت جميع الأخوات يحضرن في المدرسة في مراحل مختلفة من طفولتهن.

لكن ظروف الحياة القاسية كانت تحتم على الأخوات الثلاث، تشارلوت وإيميلي وآن، أن يتجهن إلى العمل معلمات أو مربيات، وهي أعمال كانت مقبولة لنساء الطبقة الوسطى. ورغم نجاح تشارلوت وإيميلي وآن في استغلال الفترات المتقطعة التي قضينها في المدارس لتعلم كل ما يمكن أن يحتاجن إليه للعمل بالتدريس، إلا أن ثلاثتهن كن يعانين من الشعور بالإبابة والحنين الجارف للعودة إلى البيت والاستظلال بظل العائلة. كما كان يراودهن حلم احتراف الكتابة.

وأمضت تشارلوت عاما كاملا في التدريس في إحدى مدارس بروكسل الداخلية. في خلال هذا العام، نشأت علاقة حب، من ناحية تشارلوت فقط،التي كانت تبلغ من العمر آنذاك 27 عاما، تجاه قسطنطين هيجر، الذي كان يدير المدرسة مع زوجته، كلير هيجر. وتحتوي المكتبة البريطانية على مجموعة من خطابات تشارلوت المفعمة بالعاطفة إلى هيجر. وقد نفست تشارلوت عن هذه التجربة العاطفية في روايتها الراابعة Villette، التي نشرت في عام 1853.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

وشهدالعام 1846 تطورا مهما في حياة الأخوات الثلاث، حيث قمن بنشر مجموعة من قصائدهن بأسماء مستعارة، هي: كيورار، وإيليس، وأكتون بيل، وذلك بالأموال التي ورثنها عن إليزابيث برانويل بعد وفاتها عام 1842. كانت تشارلوت، التي تحل ذكرى مرور نحو قرنين على ميلادها في 21 إبريل الجاري، هي القوة الدافعة وراء اتخاذ قرار النشر؛ لذا فقد مثل لها فشل الفكرة صفعة قوية (لم يبع الكتاب سوى نسختين فقط). رغم ذلك لم يثن هذا الفشل الذريع الأخوات الثلاث عن مواصلة الكتابة. ولم يمض سوى عام واحد حتى نشرت تشارلوت روايتها الأولى Jane Eyre (جين إير)، التي حققت نجاحا لافتا. وفي شهر ديسمبر من العام نفسه نشرت إيميلي روايتها الوحيدة Wuthering Heights (مرتفعات وذرينج)، ونشرت آن رواية Agnes Grey (أجنيس جراي).

حملت الرويات الثلاث الأسماء المستعارة نفسها. ورغم المراجعات والآراء النقدية الجيدة التي أثارتها، إلا أنها أثارت معها أيضا موجة من الشائعات حول هوية “الأخوات بيل”. كانت الحبكة المفعمة بالحيوية، والإبداع في رسم الشخصيات، لا سيما شخصية البطل، السيد روتشستر، هما السبب الرئيس في النجاح السريع واللافت الذي حققته رواية Jane Eyre. إلا أن هذه السعادة لم تدم طويلا؛ إذ تحطمت على أحزان فقد الأخ الوحيد في سبتمبر 1848.

وبينما لم تزل عنهن صدمة موت الأخ، اشتد مرض السل بإيميلي، وأقدمت على قتل نفسها بالعزوف عن تناول الدواء حتى حانت ساعة الخلاص بالموت. كان موت برانويل، ثم إيميلي، كارثة جديدة عصفت بالأختين تشارلوت وآن. ولم يمض وقت طويل حتى بدأت أعراض السل تفتك بآن أيضا. وبرغم محاولاتها الحثيثة وسعيها الدؤوب للعلاج، إلا أن سيف الموت باغتها في مايو 1849، عندما كانت ترجو تحسنا بسبب الدفء.

خيم شبح موت جميع الأخوات، إضافة إلى موت الأخ الوحيد، بظلاله الكئيبة على حياة تشارلوت التي عانت مرارة الوحدة والضياع. في نهاية المطاف، تزوجت تشارلوت من القس أرثر بيل نيكولاس، الذي جاء إلى هاورث في عام 1845. إلا أن هذه العلاقة لم تكن قائمة على الحب بقدر ما كانت قريبة من الصراع الذي خيم على العلاقة بين أبطال رواياتها، مثل جين إير والسيد روتشستر في رواية Jane Eyre، ولوسي سنو وبول إيمانويل في رواية Villette.

بعد تسعة أشهر فقط من زواجها، ماتت تشارلوت بسبب مضاعفات مرتبطة بالحمل. على إثر ذلك، عهد باتريك برونتي، الأب الذي خلف أسرته بأكملها، إلى الروائية، إليزابيث جاسكيل، بكتابة سيرة ابنته، تتشارلوت برونتي، التي نُشرت فعليا في عام 1857.

هذه المادة مترجمة

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock