السياسة كانت المهمة الثانية التي تحدثت عنها أدبيات “الإخوان”، أعنى ممارسة السياسة سبيلا لبلوغ الجماعة أهدافها. السياسة لديهم كانت هي اختراق كل التنظيمات السياسية والتعرف على مشاكلها، لا لتفاديها والاستفادة منها فى تجربتهم السياسية، بل لتكررها على نحو أفدح. لم تفلح الجماعة فى بناء حزب سياسي، لأنها بطبيعتها حركة عسكرية، أقرب إلى صيغة الجيوش التي لا تعرف سوى الجنود المطيعين الذين يقدسون القيادة وتعليماتها.
العمل السياسي ينهض على قدمين: الأولى التنشئة والتكوين السياسي، والثانية الخيال والقدرة على الفكر الحر، وهما النقيصتان اللتان لم تقبل بهما الجماعة أبدا فى عرفها، لذا غابت عنها العناصر المسيسة أو المفكرة، وليس مستغربا أن تفشل تجربة حزبهم السياسي، حزب الحرية والعدالة، لأنه لم يخرج عن تلك الصيغة التى تسلطت فيها قيادة مكتب الإرشاد على قرارات الحزب ورؤاه، التي بقيت ذات سياق متخلف يعكس فكر قيادة تجهل مبادئ السياسة ولا تجيد سوى حشد الأتباع. فى مثلث السياسة نحن دوما أمام تعبئة وتنشئة وحشد يأتى فى قمة أولويات التنظيم، وعندما يختزل الأمر فى الحشد دون تنشئة صحيحة وممارسة فى فضاء مناسب، فمن الطبيعي أن ينتج لنا هذا السلوك المشوه الذي يدعي الصلة بالعمل السياسي.
لم تنجح الجماعة فى تكوين أعضائها سياسيا، ولا أظنها كانت راغبة يوما فى ذلك، باعتبار أن ذلك يؤذى التماسك التنظيمي الذي فاخرت به الجماعة طويلا، حتى تحول التنظيم من وسيلة لتحقيق الأهداف إلى هدف بحد ذاته، ما فاقم كوارث أخرى حفرت للجماعة مكانا مستحقا فى قاع كل شيء.
كان بإمكان الجماعة لو أعطت تلك المهمة جهدا أبعد من تربية الأتباع، أن تفتح الباب لتشكيل عدد من الأحزاب بعدد المسارات الفكرية فى الساحة المصرية التي كانت مترعة بهذا التنوع، لكن من قال أنها كانت تسمح بتنوع فكري أو سياسي داخلها.
أنهى البنا هذا الأمر مبكرا يوم كان ولاء أعضاء الجماعة السياسي يتوزع بين قوى سياسية وحزبية، كان هذا فى العام 1938 عام الانتقال من مربع العمل الدعوي الذي فشلت فيه الجماعة، إلى مربع العمل السياسي الذي تأكد فشل الجماعة فيه لاحقا، عندما فشلت فى بناء أحزاب حقيقية أو تحالفات سياسية صحيحة، واعتمدت صيغة التحالف لديها على شكل واحد هو عقد الإذعان من قوة تنظيمية جبارة، لا تملك سوى القدرة على الحشد وتفتقر إلى أي تكوين سياسي متماسك، مع قوة أخرى ربما لديها هذا التكوين والخيال والخبرة، لكنها تفتقر الى حشود تملأ المؤتمرات والاجتماعات التنظيمية.
أورث ذلك الجماعة شعورا بالخيلاء التنظيمي، جعلها تنظر دوما لغيرها بدونية، وتحتقر القوى التي لا تملك قدراتها التنظيمية والعددية، ومن ثم ظلت تنظر لكل القوى بهذا المنظار. أضافت الجماعة إلى العزلة الشعورية والوجدانية لأعضائها فى مواجهة المجتمع هذا الشعور بالاستعلاء السياسي على غيرها، ما أفقدها ثقة كل القوى، الأمر الذي تأكد عبر العديد من المحطات.
الأخوان غير صالحين لأي شراكة سياسية، فهم لا يقبلون سوى منطق الوصاية على غيرهم وليس شراكة الأنداد، كان هذا عيبا بنيويا دالا على تأبي الجماعة على أى عمل سياسىي، فالسياسة فى عرفهم مجرد انحناء لقوانين الجاهلية والتمسكن فى مواجهتها عبر التقية السياسية، إلى أن تؤمن الجماعة عوامل التمكين فتعصف بكل تلك القوانين. كان إعلان مرسي الدستورى الذي حصن كل قرارته من أي طعن أمام أية جهة مثالا صارخا على ذلك وعلى حضور شهوة التمكن التي عبرت عن نفسها أسرع مما توقع البعض.
لم يكن الفشل السياسي فقط في عدم القدرة على بناء التحالفات السياسية الصحيحة أو بناء كيان حزبى صحيح، بل تمثل على نحو أكبر فى فشلهم فى مهمة إدارة الدولة المصرية، بعدما أفضى التشوه فى الواقع السياسي إلى دخول الإخوان قصر الحكم. وكما فشل الإخوان فى مشهد الحكم فشلوا على نحو أكبر فى مشهد المعارضة، بعد عزلهم، عندما أشعلوا الأرض تحت أقدام الجميع وراهنوا على المظلومية من جديد، مرتدين قميص ثورة خانوها مرتين فى أهم المحطات.
كان مشهد المعارضة المسلحة دالا على فشل أخلاقي أيضا، وحفل قاموس الجماعة بألوان من المخازي والمساخر أكدت فشلها أيضا فى المهمة الثالثة والأهم وهي الدعوة. أي دعوة تلك التي ترفع شعار شمشون: علي وعلى أعدائي، فتحرق الوطن من أجل أن تعود لحكم فشلت فى مواجهة استحقاقاته.
إنه الفشل المركب الذي حاصر الجماعة منذ نشأتها قبل تسعة عقود، لتنتهي كيانا تضربه الخلافات التنظيمية والفكرية، دون أن يتوقف ما تبقى به من عقلاء لمراجعة الرحلة منذ بدايتها وحتى اليوم، والتي تؤكد حقيقة واحدة، أن الجماعة فشلت على كافة الأصعدة وعبر تسعة عقود، قد تكمل قرنا من الفشل إن واصلت الإنكار بكل صوره، أو تعلن الحقيقة إن امتلكت مسحة من عقل أو خلق أو إدراك لحقائق النفس والكون.