منوعات

جمال حمدان .. قديس الوطنية المصرية

كانت خياراته دوما صعبة لا يتحمل ثقلها غير قديس، أولها مع عودته للوطن بعد حصوله على درجة الدكتوراه في “فلسفة الجغرافيا”، غير مكترث بعرض تعيينه في درجة أستاذ مساعد بجامعة “ريدنج” البريطانية التي منحته الدرجة العلمية، مضحيا بحبه لفتاة إنجليزية “فيلما” عارضت رجوعه لمصر وطلبت منه أن يستقرا معا في انجلترا.

عاد والعود ليس أحمد دائما، فبعد رفضه عرضا رسميا بالعمل مستشارا لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ونقده الدائم لممارسات النظام الاستبدادية وسياسة تقديم أهل الثقة على أهل الخبرة؛ عومل معاملة المغضوب عليهم، فحرم من تدريس مادته المفضلة “جغرافيا المدن”، ليتم تكليفه بمادة عادة ما يدرسها المعيدون “الخرائط”، ثم ينتدب بعدها للعمل بفرع الجامعة في الخرطوم، ولدى استلامه العمل يفاجئ بزميل له هناك يدرس كتبه على أنها من تأليفه، وعند تقدمه للحصول على درجة أستاذ كرسي يتلقى صدمة قاسية بحصول زميله “اللص” على الدرجة وحرمانه منها، عندها تقدم حمدان باستقالته إلى الجامعة.

ألجأه إنكار قدره إلى عزلة امتدت وازدادت أسبابها بمرور الزمن، وعاش في عزلته راهبا ليس له غير صلاة في محراب الوطن، فاقتصر دخله على عائد كتاباته ومعاش بسيط، قطعته الجامعة عنه بحجة أنه لم يكمل عشر سنوات في سلكها، فطالب له صديقه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، في مقالة له، بمعاش استثنائي، فما كان من حمدان إلا أن غضب لكرامته، وقاطع بهاء الدين. سُئل حمدان مرةً: متى تترك عزلتك وتخرج للناس؟ فأجاب بأنه لن يغادر بيته حتى ينصلح حال المجتمع، مبديا أسفه لأن ذلك لن يكون قريبا. رغم هذا رفض حمدان كل عرض للسفر والعمل بالخارج، واختار العزلة في الداخل، هجرا لوطن سام روحه المرار وحاصر كتاباته بالتجاهل، وتطلعا لوطن وإن كان غائبا إلا أنه مقيم في عقله ووجدانه، مكتمل البنية والبنيان في أبحاثه وكتبه.

 

عاش مستغنيا عن الناس والمال والجاه والشهرة، إذ عرض عليه صدام حسين تعيينه وزيرا بالحكومة العراقية فاعتذر، ورفض طلب القذافي أن يتولى إنشاء وزارة للتعليم العالي مقابل أي مبلغ يحدده، ورد عرضا أميريا بأن يرأس جامعة الكويت. التفرغ للتأليف والكتابة ملأ حياة أستاذ الجغرافيا السياسية، فوصل الجغرافيا بالتاريخ، والتاريخ بالاستراتيجية، و”ربط الأرض بالناس، والحاضر بالماضي، والمادي باللامادي، والعضوي بغير العضوي، وتعامل مع كل ما تحت الشمس وفوق الأرض”، لتتوالى كتاباته وتتنوع مجالاتها ما بين الجغرافيا والتاريخ والاستراتيجية.

توزعت مؤلفات جمال حمدان على إفريقيا وآسيا وأوروبا والعالمين العربي والإسلامي، ثم اجتمعت لتدلنا على أن “مصر وإن تكن إفريقية بأرضها ومائها، إلا أنها قوقازية أوروبية بجنسها ودمائها، والمصريون بهذا المعنى أنصاف أو أشباه أوروبيين. هي إذا قطعة من إفريقيا، لكنها بضعة من أوروبا، في إفريقيا وليست منها، ومن أوروبا وليست فيها. غير أنها إلى ذلك آسيوية التوجيه والتاريخ والتأثير والمصير، إنها بآسيا وإليها. وفي المحصلة الصافية فإن مصر نصف أوروبية، ثلث آسيوية، سدس إفريقية. وفي داخلها تبدأ أوروبا عند الإسكندرية، وآسيا عند القاهرة، وإفريقيا عند أسوان. جمعت مصر في آنٍ واحد بين قلب إفريقيا وقلب العالم القديم، وأخذت من المداريات زُبدها دون زَبدها، فظفرت من النيل بجائزته الكبرى دون موقعه الداخلي السحيق المعوق، واستبدلت به موقع البحر المتوسط المتقدم المتألق، واكتفت من العروض السفلى واستبدلت بحرارتها الحيويةَ المشرقة دون تطرفها الوائد، ثم استكملتها بمؤثرات عروض الخيل الملطفة المنعشة، فكان صيفا بلا سحاب وشتاءً بلا صقيع هي أصلا حياة بلا مطر”.

هكذا كانت جغرافيا حمدان: لها قلب ينبض، ونغم يطرب، وعقل يبدع بل يعيد الخلق على بهائه الأول، فمن لم يقرأ حمدان لم يعرف الوطن، ووصله به ادعاء كاذب.

عشر سنوات قضاها العاشق الوله في سبك “شخصية مصر”، نفض عنها كل تشوه، وأبرز ملامحها الأصيلة، وصقل أبعادها، وشخص أدواءها، وأبان ما ندبه القدر لها، ومنحنا “فهما كاملا معمقا لوجهنا ووجهتنا، لكياننا ومكاننا، لإمكانياتنا وملكاتنا”، راسما خريطة مصر كما ينبغي أن تكون: مصر الثورة. وكان أن دعا إليها وبشر بها وحذر من عزوف الناس عنها لا من إقبالهم عليها، منذ ما يزيد على ربع قرن، مؤكدا “أن مصر ليس أمامها سوى إحدى اثنتين: إما أن تموت بالتسمم البطيء الذي سرى واستشرى من قبل في جسدها، وإما أن تعيش بفصد الدم الفاسد المسمم. إما أن تنحدر مصر بهدوء وبطء، بهوان وهوينى، إلى ما لا نهاية وإلى ما دون الحضيض، وإما أن تنفجر على نفسها داخليا وخارجيا في نوبة عظمى تجدد شبابها وتستعيد كرامتها وتحل أزمتها التاريخية.. أمام مصر، باختصار، خياران لا ثالث لهما: الانحدار التاريخي أو الثورة التاريخية، فإما أن تغير حياتها ونظامها وتثور على نفسها ثورة نفسية وعملية، وإلا فإن أمامها مئة سنة أخرى على الأقل من الانحدار التاريخي المتسارع تتخبط وتترنح ما بين الانقلاب والانقلاب المضاد”.

رأى حمدان أن الناصرية تمثلت شخصية مصر فـ”أنت مصري.. إذن أنت ناصري.. حتى لو انفصلنا عنه (عبد الناصر) أو رفضناه كشخص أو كإنجاز. كل حاكم بعد عبد الناصر لا يملك أن يخرج على الناصرية -ولو أراد – إلا وخرج عن المصرية أي كان خائنا”.

 

 آمن حمدان بالناصرية لأنها تلبست “روح المكان”، وهو ما دعاه إلى لعن الساداتية بعد أن أقلقت الناصرية وعصفت بها، عد انقلاب السادات عليها “انتحارا وطنيا”، فمصر الساداتية “لم تعد مستقلة ذات سيادة وإنما محمية أمريكية تحت الوصاية الإسرائيلية أو العكس محمية إسرائيلية تحت الوصاية الأمريكية”. وما كان استمر واستطال، ذلك لأن “من أخطر عيوب مصر هى أنها تسمح للرجل العادى المتوسط، بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغى، وتفسح له مكانا أكبر مما يستحق.. ففى حين يتسع صدر مصر برحابة للرجل الصغير إلى القميء، فإنها على العكس تضيق أشدَّ الضيق بالرجل الممتاز..”، وما كان أشد ضيقها بحمدان.

روي أن حمدان تلقى في عزلته تلك، وقبيل وفاته، رسالة من مبارك: “اهمد شوية”، وتلقت “الأهرام” بعد يومين مقالة من حمدان يهاجم فيها الحكم الاستبدادي، المفكر المشحون بالقيامة عز عليه أن يطلب منه “رجل صغير” طلبا كهذا، كأنما لم تكن عزلته كافية، وكان عليه أن يقدم كل يوم اعتذارا عن كونه “رجل ممتاز” لا “رجل صغير” ممن “يفسح لهم الوطن أكثر مما ينبغي”! .. رغم ذلك لم تمر فترة طويلة حتى “همد” حمدان لكن للأبد.

أحاطت الشبهات بحادثة وفاته إثر انفجار أنبوبة بوتجاز بشقته، وذكر أخوه اللواء عبد العظيم حمدان أن طباخ الراحل كُسرت ساقه قبل الحادث، وعاد إلى قريته ثم اختفى، ولاحظ هو آثار ضربة بآلة حادة أسفل رأس أخيه، أما تقرير الطبيب الشرعي فأفاد أن الوفاة لم تكن ناجمة عن الاختناق بالغاز، ولا بسبب الحروق. بجانب اختفاء مسودات، من منزله، لكتب ثلاثة كانت معدة للنشر، رغم ذلك رفضت السلطات إعادة التحقيق في الحادث. فضح حمدان في موته، كما فعل في حياته، دولة الاستبداد ومجتمعها، فلم يلتفت أحد لما كان يكتبه راهب الوطنية المصرية وفيلسوفها حيا، ولم يُعنى أحد بموته ولا بملابساته المريبة، فأغمد الرجل قلمه، ونفض جسده عن روحه، ومضى (17 ابريل 1993).

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock