على مدى الأسابيع القليلة الماضية، انسلخ المسؤولون الأتراك عن العقود الماضية لما لا يزال يعرف، على الأقل إسميا، بالجمهورية التركية؛ فقد بدأوا يصفون الانتشار العسكري لبلادهم في سوريا “بالجهاد”، ومع الأيام الأولى من بدء العمليات، التي اندلعت مطلع هذا العام، أصدرت رئاسة الشئون الدينية التركية تعليماتها إلى جميع مساجد تركيا، البالغ عددها 90 ألف مسجد، بإذاعة “سورة الفتح” عبر مكبرات الصوت المثبتة في مآذنها.
يبدو أن تركيا بدأت فعليا رحلتها نحو إقامة دولة دينية على أنقاض دولتها العلمانية، وأنها في سبيلها للقيام بدور جيوسياسي محوري في الشرق الأوسط. هذا ما يؤكده سونر كاجابتاي، الزميل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ومؤلف كتاب The New Sultan: Erdogan and the Crisis of Modern Turkey “السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة”.
يؤكد كاجابتاي في مقدمة كتابه أن تطبيق الشريعة الإسلامية في الذهنية الغربية يرتبط عادة بإنزال العقاب البدني، على غرار عقوبة قطع الرأس، التي كان يطبقها تنظيم الدولة الإسلامية إبان سيطرته على أجزاء من العراق وسوريا، ويطبقها عدد قليل من الدول مثل إيران والمملكة العربية السعودية ضمن منظومتها القانونية العقابية.
كانت تركيا قد نجحت، منذ تأسيس جمهوريتها العلمانية على يد مصطفى كمال أتاتورك في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في إقصاء الدين، ليس فقط عن الفضاء السياسي، وإنما أيضا عن الفضاء الاجتماعي، وهو ما جعلها تبدو نشازا في معزوفة البلدان ذات الأغلبية المسلمة. وبينما يبقى الدستور العلماني على وضعه دونما تغيير، تكشف استطلاعات الرأي – إلى جانب التطورات الأخيرة – بجلاء عن تحولات دراماتيكية في المشهد السياسي والاجتماعي التركي.
فقد دأبت الحكومة التركية في السنوات الأخيرة بقيادة رجب طيب أردوغان – وفقا لكاجابتاي – على تقويض الحريات الفردية، وإنزال العقوبات على الأفراد الذين يسيئون إلى الإسلام، أو الذين يتهاونون في أداء الشعائر الإسلامية. فمنذ نوفمبر 2017، تقوم الشرطة المحلية، التي تخضع للحكومة المركزية، برصد التعليقات والكتابات المتعلقة بالدين على الإنترنت، وتسلب المواطنين حقهم في التعبير عن آرائهم، إذا ما وجدت هذه التعليقات “مسيئة للإسلام”.
وبعيدا عن الأعين، أصبح شائعا أن تلقي الشرطة القبض على الذين يوجهون إنتقادات علنية ضد الإسلام. ويمثل الكاتب لذلك بمحاكمة المؤلف الموسيقي وعازف البيانو التركي الشهير، فاضل ساي، مرتين بتهمة نشر تعليقات استفزازية مسيئة للإسلام على شبكات التواصل الاجتماعي، وإدانته “بإهانة القيم الدينية لقطاع من المواطنين” بعدما نشر تغريدات تسخر من الآذان على حسابه الخاص على موقع تويتر.
كما يلفت كاجابتاي إلى الدور الذي تقوم به شبكة تليفزيون TRT، التركية الحكومية، في الهجوم على كل من لا يقيمون الشعائر الدينية. ففي يونيو 2016، على سبيل المثال، استضافت الشبكة العالم الديني، مصطفى عسكر، الذي شبَه الذين لا يؤدون الصلاة بالحيوانات، حسب ما يرصد الكتاب.
ويمثل التعليم ركيزة أساسية في المشروع الأردوغاني لصبغ المجتمع بالصبغة الدينية. ويخضع النظام التعليمي في تركيا – على غرار منظومة الأمن – للحكومة المركزية، وتمارس وزارة التعليم ضغوطا مكثفة على المواطنين لإلزامهم بالممارسات الدينية المحافظة داخل المدارس الحكومية.
ويشير كاجابتاي أيضا إلى الجهود الحكومية الدؤوبة لإدخال الممارسات الدينية ضمن منظومة التعليم العام، من خلال عدة إجراءات، من أبرزها تخصيص أماكن للصلاة في جميع المنشآت التعليمية الحديثة. كما يذكر أن مسئولا تعليميا رفيع المستوى في مدينة اسطنبول طالب المعلمين مؤخرا باصطحاب الطلاب لأداء الصلاة في المساجد المحلية.
أما الخطر الأكبر من وجهة نظر كاجابتاي فيتمثل في رئاسة الشئون الدينية التركية، التي يسعى النظام التركي من خلالها إلى تديين الفضاء السياسي وصبغ الحكم بالصبغة الدينية. في هذا الإطار، منح أردوغان مكانة إضافية لهذه الإدارة التي يطلق عليها في تركيا “ديانات”.
كان أتاتورك قد أنشأ هذه الإدارة البيروقراطية في عام 1924 لتنظيم الخدمات الدينية في إطار المنظومة العلمانية، وكان رئيسها يعدل وزيرا في الهيكل الوظيفي التركي، إلا أن أردوغان رفع مكانة الرئيس الجديد لهذه الإدارة، علي أرباش، إلى نائب رئيس.
ويواظب أرباش حاليا على حضور جميع الفعاليات المهمة والمناسبات العامة إلى جوار الرئيس أردوغان، ويبارك كل ما يعبر الجسر الثالث (جسر السلطان سليم الأول) من اسطنبول، عبر مضيق البوسفور، لخدمة أهداف الحملة التركية ضد الميليشيا الكردية في سوريا.
ويؤكد كاجابتاي أن رئاسة الشئون الدينية التركية لا تألو جهدا في الاستفادة من صلاحياتها الجديدة لإدراج جميع عناصر الشريعة الإسلامية ضمن المنظومة المجتمعية التركية. فقد أطلقت الرئاسة مؤخرا فتوى على موقعها الإلكتروني تؤكد فيها إمكانية زواج الفتيات من سن 9 سنوات، والفتيان من سن 12 سنة، إذا ظهرت عليهم علامات البلوغ، لكن ما أثارته هذه الفتوى من غضب شعبي، دفع الرئاسة إلى حذفها لاحقا من على الموقع.
وفي 9 فبراير 2018، أعلنت رئاسة الشئون الدينية عن خطة جديدة لتعيين نواب عنها بين الطلاب في جميع المدارس الحكومية في تركيا، البالغ عددها 60 ألف مدرسة، بما يضع التعليم الحكومي تحت رقابة أكثر صرامة من الهيئة الدينية.
ويخلص كاجابتاي إلى أن الشريعة الإسلامية تسير حثيثا، ولكن على نحو واع ومتدرج، لتحل محل النظام العلماني في تركيا، ما يفصح عن مسعى أردوغان لإقامة صرح دولة إسلامية على أنقاض الجمهورية الكمالية.