“حين أستعيد بذاكرتي تلك الأيام أتساءل: هل هؤلاء النساء اللاتي عرفتهن داخل الحريم كن تعيسات؟.. لا أعتقد، لقد كن علي الأرجح عكس ذلك، لم يفتقدن الحرية، كن يمتلكن كل ما يتمنين، كن راضيات بالراحة التي يتمتعن بها، وكانت هناك نساء قليلات جدا مثلي لديهن حاجات مختلفة”.
هكذا تحدثت رمزة بطلة تلك الرواية المدهشة التي نشرت في سلسلة روايات الهلال تحت عنوان (رمزة ابنة الحريم) العدد607.
“قوت القلوب الدمرداشية” مؤلفة الرواية هي كاتبة مصرية لها العديد من الروايات الشهيرة الناضجة السابقة لعصرها ولكنها غير معروفة للقارئ العربي لأنها كانت تكتب بالفرنسية وهي اللغة التي كان يستخدمها أبناء الطبقة الأرستقراطية في مصر قبل ثورة 1952، وكان للكاتبة صالون أدبي متميز يقصده رجال ونساء المجتمع البارزون.
وهي ابنة الشيخ عبد الرحمن الدمرداش شيخ الطريقة الدمرداشية، وكان علي جانب كبير من الثراء، وتركت قوت القلوب حين ماتت عام 1968 وراءها ميراثا ضخما ومستشفي خيري يحمل اسمها حتي الآن هو مستشفي الدمرداش الشهير وقد أوقفت مبلغا كبيرا 60 ألفا من الجنيهات الذهبية للإنفاق علي المستشفى وعلاج الفقراء.
تبدو الأعمال الأدبية الرئيسية للكاتبة قوت القلوب الدمرداشية (حريم)، (ليلة القدر)، (رمزة)، (حفناوي الرائع) كاشفة عن عالم أدبي من نوع خاص، عالم يهتم بالنساء والمجتمع البرجوازي وتأثير مفردات الشرق علي المرأة.
تدور أحداث الرواية التي بين أيدينا في فترة حكم الخديوي إسماعيل حين كان يريد لمصر أن تصبح قطعة من أوربا، وشملت حركة الازدهار الاقتصادي والاجتماعي وقتها إلغاء الرق في عام 1877م، وهو حدث يبدو تأثيره واضحا علي الرواية التي تدخلنا معها عالم الجواري خلف أسوار الحريم بكل مافيه من سحر وغموض وعبق شرقي خاص.
ويبدو حماس قوت القلوب لتناول هذا الموضوع الساخن (وضع المرأة في المجتمع الشرقي) في مقدمة روايتها: “لقد تورطت في هذه القضية نصف قرن هززت فيها أسوار الحريم، تمردت وثرت علي عادات القرون الماضية، ووضعت أمام الرأي العام قضية حقوق المرأة وحريتها”. وكانت قد خصصت جائزة تمنحها للمواهب الأدبية الشابة، وأول من حصل عليها هو الأديب الشاب الواعد وقتها نجيب محفوظ، وهو نفسه أديبنا الشهير صاحب نوبل.
إنجي
هنا يثور تساؤل: من أين تأتي الجواري؟ .. “ليست سبايا الحروب سوى استثناء ولكن المصادر الأصلية هي البيع والخطف”.. هكذا تقول إنجي بطلة روايتنا التي لم تعد تذكر اسم القرية التي ولدت بها. تذكر فقط كيف كانت محاطة بسياج من الجبال ذات اللون البنفسجي، تلعب في حديقة بجانب منزل صغير بالقرب من كنيسة، ومن داخل الكنيسة كان يتلألأ نور الشموع الذي كان يهنز أمام صور القديسين، ثم قابلت رجلا في طرقات الحديقة كانت تعرفه لكنه فجأة أمسك بها وأغلق فمها بيده وقيد ساقيها بعنف. حدث هذا عندما حل الظلام، عندئذ سمعت صوت أمها تناديها: أولجا .. أولجا، لكنها لم تستطع أن تجيب وظلت ذكرى خطفها كابوسا مفزعا يرعبها كلما تذكرته بعد ذلك.
توفيقة هانم التي اشترتها وربتها كابنتها في استانبول كانت خير عوض لها عن أهلها وأحسنت تربيتها بكل حب وعلمتها اللغات والفنون والبيانو والإتيكيت وأطلقت عليها اسمها الجديد الذي سيظل معها طيلة حياتها (إنجي) ومعناه لؤلؤة بالتركية.
كانت إنجي رائعة الجمال شقراء ولها وجه مملوء بتعبير طفولي ساذج، لم يكن بها ذرة من شر ولم تكن تتخيل أن لدى الآخرين شرا.
ذات مرة وهي في استانبول سمعت صوت خادمة تغني بلغة أجنبية، ودون أن تفهم كلماتها تعرفت علي لحنها المألوف حين إذ أدركت أنها سلافية من الصرب.
بعد وفاة توفيقة هانم بيعت (إنجي) واستقر بها الحال في القاهرة عند (رستم أغا) تاجر الرقيق الشهير، وهناك قابلت (نرجس).
نرجس
قصة نرجس مختلفة، فقد ولدت في قرية بجبال القوقاز وربيت منذ طفولتها علي أنها سوف تباع في يوم ما، لذلك اعتني بها أبيها باهتمام وخاصة تغذيتها والحفاظ علي جمالها ونعومة بشرتها وبمجرد أن بلغت بدايات المراهقة بيعت لتاجر رقيق كان يمر بالقرية بانتظام. كانت قوية وصلبة ولم تكن تشعر بأي اشتياق لأسرتها الفقيرة فقد كانت تحلم أن تكون في حريم أمير جميل شاب، وانتهي بها الحال عند (رستم أغا) في القاهرة، ومن أول يوم تآخت الفتاتان معا وتعاهدتا علي عدم الافتراق.
فريد باشا
كانت والدته (جوليسار هانم) تحكم الحريم وتدير المنزل الضخم علي الخليج، ولم يكن هذا بالأمر السهل، أما هو فقد تفرغ لعمله بالمحاماه وقراءاته بمختلف اللغات وأشغاله العديدة وتزوج في صباه من (جولستان هانم) التي كانت علي تفاهم تام مع والدته خاصة أنهما شركسيتان، وكانت جولستان هدية له من الخديوي إسماعيل شخصيا بعد عودته من باريس.
الشيء الوحيد الذي كان يعكر صفو العلاقات في البيت الفخم أن جولستان لم تنجب بعد محاولات عديدة طوال عشر سنوات، لذلك اقترحت الأم شراء جارية لابنها، من ناحية ستحقق الهدف وهو الانجاب ومن ناحية أخرى لن تخل بوضع جولستان هانم الزوجة المفضلة ولا بالعلاقة المتناغمة مع حماتها.
عندما ذهبت الأم لشراء الجارية من (رقية) زوجة رستم أغا كان قانون منع الرق قد صدر، ولأن التاجر يريد تصفية بضاعته فقد باع للأم الفتاتان معا بسعر واحدة (1200) جنيه ذهبي، ورقت الأم لحالهما وبكائهما ورفضهما الانفصال عن بعض واعتبرت نفسها فازت بصفقة رابحة وإن كانت لم تظهر ذلك للبائع بل ظلت تفاصله وتجادله حتي وصلت لهذا السعر اللقطة. الحق أن الفتاتين كانتا ساحرتين ماهرتين في كل شيء، وهكذا دخلت (إنجي) و(نرجس) في حريم فريد باشا.
رمزة
كانت الطفلة الأولي المدللة المتمردة لفريد باشا وأمها (إنجي) وكتبت يوما في
مذكراتها: “كنت حين أفكر وأتخيل أن أمي بيعت يوما كما تباع الماشية في السوق أبكي وأكره جدتي وجولستان لهذا السبب وخاصة جدتي التي أعتبرها مسئولة عن كل هذا، رغم أنها لم تفعل شيئا غير عادي في بيئتها، وأخيرا فهمت أنها كانت تتصرف طبقا لتقاليد عصرها، أما المذنبون فيمكن البحث عنهم في مكان آخر، ولكن هل كان يوجد مذنبون حقا؟ .. كان علي أن أغير مشاعري تلك فهذا أسهل من كرههم إلي حد ميلاد مشاعر برغبتي في قتلهم جميعا، قتل جدتي ورستم ورقية، بل وأبي وكل سيد للحريم”.
تعلمت (رمزة) في المدارس وخرجت للحياة بل كانت تذهب للمحلات بنفسها تشتري ما شاءت وتقلب في البضائع وتعود للحريم في بيتها تحكي لهن كيف تغيرت الدنيا بشكل لا يصدقونه، فبالرغم من انتهاء الرق إلا أنهن لم يكن لديهن بديل ولا رغبة في تغيير الوضع المريح الآمن الذي اعتدنه.
ماهر
بعد خطوبة فاشلة أعجبت (رمزة) بالضابط الشاب (ماهر) شقيق زميلتها في المدرسة (بهيجة)، كان الإعجاب متبادلا وتمكن العاشقان من اللقاء مرات عديدة في المصيف في الإسكندرية حيث تجاورت الشاليهات في سان استيفانو. عزم ماهر على طلب رمزة للزواج كما تقتضي الأصول لكن والدها رفض رفضا تاما لأن مستوي عائلة ماهر الاجتماعي أقل، وبشكل جنوني وضد كل التقاليد اتخذت رمزة قرارها بالهرب مع ماهر والزواج منه رغما عن أبيها وكل التقاليد والأعراف السائدة القوية.
الزواج
لم يستمر الزواج طويلا فقد أقام فريد باشا الدنيا ولم يقعدها ورفع قضية بفسخ الزواج لأنه تم بدون ولايته، وتصدرت قصة رمزة الصحف والمنتديات الاجتماعية والأسوأ أن زوجها الضابط تخلى عنها لأنه خشى على مركزه وسمعته ولم يستطع تحمل الضغوط، فالحريم ليس مجرد قانون يمكن إلغاؤه بل هو ميراث ثقافي واجتماعي عميق يرتبط بعادات وتقاليد متجذرة يخضع لها الجميع، الرجل قبل المرأة.
توقفت رمزة هنا وتوقفت الكاتبة معها علي باب الحريم الذي خرجت منه فعلا لكنها لم تؤسس لنفسها وضعا كريما يحميها ويكفل حقوقها بالكامل. ربما حتى اليوم لا تزال المرأة متوقفة عند عتبة باب الحريم، فلا هي عادت إليه لأنها لم تعد تصلح له ولم يعد مقبولا، ولا أوجدت لنفسها بديلا متكاملا. هي فقط تحاول وتذهب وتجئ وتراوح في مكانها بخطى عرجاء.