الضجة الأخيرة التي أعقبت قمة هلسنكي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتن، تبدو مرشحة للمزيد من التداعيات المعقدة والمتشابكة في الفترة المقبلة، وسط تصاعد الغضب على الرئيس الأمريكي من دوائر نافذة في بلاده وفي العديد من العواصم الأوروبية.
عاصفة الانتقادات والاتهامات والشكوك التي طالت ترامب عقب الاجتماع وصفته بالتخاذل والضعف في مواجهة العدو التقليدي التاريخي للولايات المتحدة، ووصلت لحد اعتبار البعض أن ترامب عزز الشكوك المثارة حول تورطه مع الروس في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، ما رأت فيه دوائر عديدة أنه يأخذ العلاقات الأمريكية الروسية في اتجاه مقلق للساسة وصناع القرار في الولايات المتحدة وشركائها في حلف الناتو.
البداية عندما كشفت شبكة “سي.إن.إن” الأمريكية أن ترامب أصر على عقد اجتماع ثنائي مع فلاديمير بوتين في بداية القمة لتجنب تسريب معلومات حول رأيه الشخصي في الرئيس الروسي والعلاقة الشخصية التي تجمعهما، فيما تحدثت تقارير أخرى عن المخاوف من تأثير هذه التداعيات على تقويض حلف الناتو.
زاد من حدة الأزمة خروج الرئيس الأمريكي عقب اللقاء بالتصريح الذي أحدث دويا كبيرا بقوله: “لا أرى سببا يدفع للاعتقاد بأن الروس قد تدخلوا في الانتخابات الرئاسية عام 2016، الرئيس بوتين ينفي بشدة مثل هذا التدخل، ولذا ليس لدي أي سبب لاتهامهم بذلك”. لم يكتف ترامب بذلك بل ندد بالتحقيقات الجارية في بلاده حول هذا الشأن قائلا: “هذا التحقيق كارثة، وله تأثير سلبي على العلاقات بين القوتين النوويتين الأبرز في العالم”.
هنا توالت ردود الأفعال الغاضبة والمشتعلة ضد ترامب باعتباره بمثل هذه التصريحات يشكك في مصداقية الاستخبارات الامريكية التي خرج رئيسها دانييل كوتس مباشرة ببيان يرفض فيه صراحة تصريحات رئيس بلاده، مشددا على أن دور المخابرات هو توفير أفضل المعلومات المتاحة والتقييمات التي تستند إلى الحقائق للرئيس ولصانعي السياسات، وهي كانت واضحة في تقييمها للتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية”. وتابع: “التحليلات التي تجريها المخابرات الأمريكية ليست خاطئة، وهي رصدت مدى تغلغل النفوذ الروسي لتقويض الديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية”.
تبع هذا البيان سيل من الانتقادات التي وجهها سياسيون بارزون في الولايات المتحدة وقادة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي لترامب، معربين عن صدمتهم من دفاعه عن موسكو وأجهزة استخباراتها، واتهامه الإدارات الأمريكية السابقة بالسعي لإضعاف العلاقات الأمريكية الروسية.
السيناتور الجمهوري جون ماكين وصف المؤتمر الصحفي لترامب مع بوتين عقب القمة بأنه “أحد أكثر العروض المشينة لرئيس أمريكي، معتبرا أن قمة هلسنكي “كانت خطأ مأساويا”، في حين أصدر بول رايان رئيس مجلس النواب بيانا شديد اللهجة للتنديد بمسلك رئيس بلاده، مشددا فيه على “ضرورة أن يدرك ترامب أن روسيا ليست حليفتنا”. وتابع: “لا يوجد أخلاقيا أوجه شبه بين الولايات المتحدة وروسيا، التي تبقى معادية لمثلنا وقيمنا الأساسية”.
وذهب زعيم الديمقراطيين في الكونغرس تشاك شومر لأبعد من ذلك، متهما ترامب بأنه “غلب مصالح روسيا على مصالح الولايات المتحدة”، معربا عن دهشته من اتخاذه مثل هذا المسلك الخطير، حسب تعبيره، وواصفا رئيس بلاده بأنه “”ضعيف وتصريحاته غير مسؤولة ومتخاذلة”. الموقف الأكثر تشددا جاء على لسان جون برنان المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية “سي آي ايه” بين عامي 2013 و2017، والذي وصف أداء ترامب في هلسنكي بأنه “ليس أقل من عمل خيانة”، وكتب في تغريدة له على تويتر: “لم تكن تصريحات ترامب حمقاء فحسب، بل بدا ألعوبة بأيدي بوتن”، موجها رسالة تحريضية إلى قيادات الحزب الجمهوري: “أين أنتم أيها الوطنيون الجمهوريون؟”.
ولم يتوقف الهجوم الشرس عند المستويات الرسمية، بل تبارت الصحافة الأمريكية في التركيز على ما اعتبرته “الخطأ المشين لترامب” وغلب على تغطياتها للقمة التشكيك في نوايا الرئيس الأمريكي وما أحاط بالقمة من غموض متعمد. وقالت الديلي تلغراف “لا أحد يعرف ما الذي قاله الرئيسان في جلستهما المغلقة التي أبعد ترامب عنها أقرب المستشارين بمن فيهم جون كيلي رئيس موظفي البيت الأبيض”، واتهمته الصحيفة ترامب بلعب دور “منح من خلاله الشرعية للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وسياسته الخارجية العدوانية” حسب وصف الصحيفة.
ونشرت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية مقالا كتبه غيديون راكمان قال فيه “إن أفكار ترامب متطرفة وسيئة ومشبوهة أخلاقيا، وعلى الولايات المتحدة إدراك أهمية حلفائها”، محذرا من أن “اعتماد واشنطن على مبدأ المصلحة المتغيرة يشجع روسيا والصين على توسيع نفوذهما”.
وتحت وطأة ردود الفعل العنيفة، اضطر ترامب للتراجع نسبيا عن تصريحاته السابقة، مؤكدا “ثقته الكبيرة” بأجهزة الاستخبارات الأميركية، وكتب تغريدة يقول فيها: “كما قلت اليوم ومرارا قبل ذلك، ثقتي كبيرة بعناصري في أجهزة الاستخبارات، إلا أنني علي أيضا أن أدرك أنه لبناء مستقبل أفضل لا يمكننا على الدوام الاكتفاء بالتطلع إلى الماضي، وعلينا أن نتفق باعتبارنا الدولتين النوويتين الأكبر عالميا”. إلا أن هذه التصريحات لم تنجح في إطفاء ثورة الغضب على الرئيس الأمريكي، التي تبدو آخذة في التزايد.