مختارات

إعلان إسرائيل دولة عنصرية.. «جنون محض»

إنه الجنون بعينه.. هكذا يؤكد كاتب صهيونى شديد الحماس للدعوة الصهيونية وللسيطرة الكاملة على فلسطين، تعليقاً على نجاح التيارات اليمينية المتشددة فى إصدار «قانون القومية» من الكنيست يوم 19 يوليو الفائت، وهو القانون الذى يؤسس لجعل إسرائيل «دولة يهودية»، أى دولة لليهود وحدهم دون غيرهم. 

هذا الكاتب يريد أن يؤكد جانبا مهما من القضية المثارة الآن داخل الكيان الصهيونى وهى وجود انقسام حاد على القانون، بين من يعتبرون أنفسهم ممثلين لـ «الصهيونية اليهودية» وهم من قاتلوا داخل الكنيست لتمرير القانون، وبين من يعتبرون أنفسهم ممثلين لـ”الصهيونية الليبرالية” الرافضين له، لذلك لم يصدر القانون إلا بأغلبية 61 صوتاً فقط من إجمالى الأعضاء البالغ عددهم 120 نائباً، لكن الجانب الآخر الأهم هو ما الذى دفع هؤلاء الصهاينة التوراتيين للإصرار على فرض هذا القانون الذى يؤكد أن الكيان الصهيوني، بتحوله إلى دولة يهودية، أصبح باعتراف أصحابه دولة تمييز عنصري جهاراً نهاراً وبنص القانون.

بنيامين نتنياهو

من هنا جاء وصف ما حدث بأنه “جنون محض” وللتدليل على ذلك يقول: هل رأيتم أن لصاً محترفاً تجرأ فى يوم من الأيام على أن يستأجر محلاً ليكون مقراً رسمياً لممارسة اللصوصية علناً ودون مواربة وأن يعلق لافتة أعلى هذا المحل تعلن نشاطه كلص محترف يتحدى السلطة والقانون نصها “فلان وأولاده لسرقة كل أنواع السيارات والأدوات الكهربائية مثلاً؟!!”. هذا ما فعلته إسرائيل بإصدار ذلك القانون.

الإسرائيليون الذين أصدروا «قانون القومية» فعلوا ذلك ومن على منصة برلمانهم، دون اعتبار لما سبق أن كتبه الدبلوماسى الإسرائيلى القديم ألون لينال محذراً على “تويتر” بأن الفصل العنصرى (الابارتهايد) فى جنوب إفريقيا لم يسقط بسبب وجود عنصرية حقيقية فى الممارسة فقط بل ولأن هذه العنصرية والتمييز العنصرى كان موجوداً ومنصوصاً عليه فى قانون الدولة، على نحو ما هو حادث الآن فى إسرائيل.

ولذلك يشغل الكثيرين من الإسرائيليين، الرافضين لهذا القانون والمتخوفين من تداعياته السلبية المؤكدة على مستقبل وجود الكيان الصهيوني، أنفسهم سؤال مهم وهو: لماذا لجأ هؤلاء المتحمسون لقانون القومية لإصداره مادام أن التمييز العنصرى يمارس بأعتى صوره ضد الشعب الفلسطينى عملياً منذ تأسيس الكيان، على النحو الذى أراده الآباء المؤسسون، وفى المقدمة ديفيد بن جوريون الذين حرصوا على أن يضمنِّوا “وثيقة الاستقلال” نصوصاً تقطر إنسانية واحتراماً لأبناء الشعب الفلسطيني، فى محاولة ذكية منهم لتجىء وثيقة الاستقلال (وثيقة إعلان قيام الكيان عام 1948) مطابقة للقيم المتضمنة فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة، كى يحصل الكيان على الاعتراف الدولي، وهذا ما نجحوا فيه، رغم أنهم كانوا يمارسون أسوأ أنواع العدوانية ضد حقوق الإنسان الفلسطينى داخل الكيان، وظلوا يمارسون هذه العنصرية على مدى الأعوام السبعين الماضية من عمر الكيان.

تتعدد الإجابات عن هذا السؤال، ونحن أيضاً يجب أن تشغلنا الإجابة لأن ذلك له علاقة مباشرة بسبل المواجهة. ويمكننا أن نحصر الإجابات المتعددة على سؤال دوافع إقدام الكيان على إصدار قانون عنصرى من شأنه أن يعرضه للمحاسبة الدولية وأن يخلق جبهة مواجهة عالمية واسعة ضده على نحو ما حدث مع النظام العنصرى لجنوب أفريقيا (السابق) فى إجابتين: الأولى إجابة مبسطة وتحصر الأسباب فى التنافس السياسى والانتخابى بين أبرز التيارات اليمينية المتطرفة، وعلى الأخص حزب الليكود بزعامة بنيامين نيتانياهو وحزب البيت اليهودى بزعامة نفتالى بينيت حول أيهما الأحق بتمثيل تطلعات التيارات اليهودية المتشددة داخل الكيان، أما الإجابة الأكثر واقعية والأهم فهى إدراك قادة هذه التيارات، وهم ممثلون بقوة داخل ما يسمى «الكابينيت» (الحكومة المصغرة)، بأن هناك فرصة إقليمية كبرى أمام إسرائيل كى تفرض نفسها كـ”دولة يهودية” وأن تفرض مشروع التهويد الكامل داخلها وعلى الضفة الغربية ضمن خطة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للسلام التى استقى مضامينها صهره ومستشاره جاريد كوشنر ومبعوثه للشرق الأوسط جيسون جرينبلات من خلال أكثر من جولة قاما بها فى المنطقة، وبالتحديد للدول العربية ذات الشأن فى الأمرين العربى والفلسطيني.

دونالد ترامب، ديفيد جرينبلات، جاريد كوشنر

هذه الإجابة عرضها الكاتبان فى صحيفة «هاآرتس» أمير تيفور وعاموس هرئيل (المحسوبة على تيار الصهيونية الليبرالية) بالقول إنه فى نهاية تلك الجولات، وصل جيسون جرينبلات المبعوث الخاص للرئيس ترامب إلى استنتاج مفاده أن “الولايات المتحدة تمتلك الآن فرصة نادرة للربط بين إسرائيل والدول العربية على أساس التقاء مصالح الأطراف فى العداء لإيران”.

وأكد الكاتبان استنتاجهما بأن مصدراً كبيراً فى البيت الأبيض أوضح أن “العالم العربى وإسرائيل يتقاسمان الكثير من المصالح والأهداف المشتركة للعمل ضد إيران”، وأن هذا الاستنتاج دفع كل من كوشنر وجرينبلات للعمل مع السفير الأمريكى الجديد فى إسرائيل ديفيد فريدمان بتركيزعملهم على “توظيف هذا التلاقى فى المصالح والأهداف بين إسرائيل ودول عربية لبلورة مشروع ترامب للسلام”، الذى حمل اسم “صفقة القرن”، وكانت قناعتهم أنهم سينجحون فى مشروعهم، لكن رفض الرئيس الفلسطينى محمود عباس الصفقة أربك حسابات كل الأطراف الأمريكية والإسرائيلية والعربية.

التعليق المتداول المنقول عن أبو مازن بهذا الخصوص هو قوله: “لن أنهى حياتى بخيانة”. هذا الإرباك الذى حدث فرض إرجاء إعلان الخطة، وهذا ما حفز صقور الحكومة الإسرائيلية، وعلى رأسهم بنيامين نيتانياهو، للتعجيل بإصدار “قانون القومية” باعتباره مكسباً لا يمكن التضحية به انتظاراً لإعلان صفقة ترامب المتعثرة، خصوصاً أن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للكيان ونقل السفارة الأمريكية إليها أنجز، عملياً، الجزء الأكبر من الصفقة التى سيزداد تأكيدها بفرض قانون جعل إسرائيل دولة يهودية، إضافة إلى الجهود الأمريكية- الإسرائيلية لتصفية حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس

إنها إذن «الفرصة التاريخية» التى وفرها الانحراف العربى عن مجرى الصراع التاريخى والإستراتيجى ضد الكيان الصهيونى بصراعات أخرى بديلة، سواء كانت حقيقية أم مفتعلة هى من شجعت إدارة ترامب على صياغة مشروع للتسوية يحقق طموحات إسرائيل على حساب الحقوق العربية فى فلسطين، وحفَّزت المتطرفين اليهود داخل الكيان للتجرؤ على إعلانه «دولة عنصرية يهودية» ضاربين عرض الحائط بكل قواعد القانون الدولى وقرارات الشرعية الدولية.

الوعى بهذه الحقيقة والعمل على تصحيحها هو المدخل الأنسب والحتمى لإسقاط التجرؤ الأمريكى والإسرائيلى على الحقوق العربية المشروعة فى فلسطين وعلى مجمل الحقوق العربية.

عن “الأهرام”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock