على أرض مصر وجدت أول دولة موحدة قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، وكانت سباقة في تطبيق النظم الإدارية والتشريعية، وفي عصور ما قبل الميلاد عرفت مصر قوانين تحديد ساعات العمل للفلاحين الأجراء، كما عرفت قوانين مكافحة السخرة، واستوعبت خلال تاريخها الطويل الكثير من الثقافات، وامتزجت حضارتها بالكثير من الحضارات، فقدمت للعالم أرقى نظم الحكم والإدارة، ومرعليها الكثير من نظم الحكم الوطنية وغير الوطنية، وحَّدها مينا نارمر، ودخلها الإسكندر الأكبر، وحكمها الإغريق من بعده، وانتقل الحكم من بعد للبطالسة ثم الرومان. استقبلت مصر المسيحية فانتشرت فيها في النصف الأول من القرن الميلادي الأول، وصنعت كنيستها الخاصة، وفتحها العرب وتغيرت أحوالها مع دخول الإسلام، وبدأت مرجعية الحكم والتشريع تنتقل إلى القرآن والسنة النبوية، وظلت درة الخلافة الإسلامية على مدار الزمن، حتى أصبحت عاصمة الخلافة في الدولة الفاطمية، وبنيت القاهرة وصارت عاصمة مصر، وصار الأزهر منارتها الكبرى.
خلال دورات الزمن تقدمت نظم الحكم في مصر، وعرفت مجالس التشريع والقضاء، كانت مهمة هذه المجالس تشمل النظام القانوني بالإضافة إلى إبرام المعاهدات مع الدول الأجنبية. وفي فترة حكم الدولة الأيوبية (1171 ــ 1250) صارت القلعة هي مقر الحكم ومركز القيادة، وحكمها المماليك قرابة ثلاثة قرون (1250ـ 1517)، وانتقلت من بعدهم إلى حكم العثمانيين (1517ـ 1805)، وانتهت في يد محمد علي ومن بعده إلى ورثته حتى فاروق الأول والأخير الذي أزاحته ثورة الجيش والشعب في 23 يوليو 1952.
تلاحم الشعب والعلماء
خلال حكم العثمانيين لم تعرف مصر مجالس تنوب عن الشعب، وتشارك الحاكم في حكم البلاد، كان الأزهر الشريف ملاذ المظلومين ونقطة تجمع أكثر حركات الاحتجاج على الظلم، وكان بعض العلماء من المصريين يقومون بدور واضح في الحياة العامة، فكان يؤخذ رأيهم بصفة استشارية، وقد يلجأ إليهم الباشا العثماني والمماليك للتوسط فيما بينهم من الخلافات الداخلية، أو لتهدئة خواطر الشعب المظلوم، وكان أبناء الشعب يلجأون إليهم للتوسط بينهم وبين الحكومة لرفع المظالم، وكثيراً ما قاد العلماء حركة المظلومين في مواجهة ظلم الحكام.
نجح علماء الأزهر في تلك الفترات من الغليان الشعبي في التعبير عن مطالب الشعب في كثير من الأوقات، ولعل الثورة الشعبية التي اندلعت في مصر قبيل الحملة الفرنسية في سنة 1795 تمثل أنضج صفحات التلاحم بين الشعب والعلماء، والتي انتهت بانتصار الإرادة الشعبية، وإرغام الوالي العثماني والمماليك على وضع أول وثيقة مكتوبة في تاريخ مصر الحديث تنظم بعض مظاهر العلاقة بين الحاكم والمحكومين.
البداية
ثورة يوليو سنة ١٧٩٥ هي نقطة انطلاق جديدة لنضال الشعب المصري من أجل المشاركة في إدارة أمور بلاده، من أجل الوصول إلي صيغة عقد اجتماعي بين الحاكم والشعب ينظم العلاقة بينهما.
وإذا كان الدستور في أبسط تعريفاته هو عقد بين أطراف المجتمع، ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم، ويقيد السلطات المطلقة للحاكم التي عرفتها المجتمعات الإنسانية في العصور الوسطي، ويحدد العلاقة بين سلطات الدولة ومؤسساتها، فإن الشعب المصري نجح للمرة الأولي في وضع قيود علي السلطة المطلقة لحكامه في أواخر القرن الثامن عشر. ففي يوليو سنة 1795 وصلت حالة السخط عند الشعب إلي ذروتها وأدي السخط إلي انفجار الثورة ضد بكوات المماليك في مصر، الذين كانوا يشاركون الباشا العثماني في إدارة البلاد، وكان السبب وراء تفجر الأحداث كما يذكر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، الجبايات التي فرضها الأمير محمد بك الألفي وأتباعه علي قرية من قري الشرقية فتوجه أهالي القرية إلي الشيخ الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر وشكوا له.
كانت البداية في بلبيس بالشرقية انطلقت منها شرارة العصيان، فشملت أنحاء كثيرة من البلاد، وكان أتباع محمد بك الألفي أحد زعامات المماليك قد فرضوا الكثير من الضرائب والإتاوات على بعض التجار والأغنياء والفلاحين، ومن أجل تحصيلها أمر أتباعه باستخدام كل أساليب التعذيب، كانت الضرائب فوق طاقة الأهالي، ولم يكن باستطاعتهم سدادها، فتجمعوا وانعقد عزمهم على الزحف إلى القاهرة للجوء إلى الزعامات الدينية في الأزهر.
كان المشهد مهيباً، حيث سارت جموع الشعب على الأقدام من بلبيس إلى القاهرة قاصدين الجامع الأزهر، وكان في استقبالهم كل من الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر والسيد عمر مكرم نقيب الأشراف، وحملهما الأهالي مطالبتهم برفع الظلم الواقع عليهم، فأمرا بإغلاق أبواب الأزهر، وبادرا إلى عقد اجتماع موسع ضم المشايخ والعلماء، وانتهى اجتماعهم على مخاطبة الزعيمين المملوكين مراد بك وإبراهيم بك بشأن مطالب الناس ومظالمهم، ولكنهما لم يبديا شيئاً من الاستعداد لرفع تلك المظالم والتخفيف منها.
وثيقة المطالب
قرر المشايخ والعلماء ونقيب الأشراف تصعيد المواجهة، فأمروا الناس بغلق الحوانيت والأسواق، واجتمع معهم خلق كثير، وتبعتهم الجماهير التي كانت تضيق ذرعاً بظلم المماليك، وتوجه الجميع إلى بيت الشيخ أبى الأنوار السادات الذي كان قريباً من مقر إقامة إبراهيم بك، والذي أرسل إليهم أيوب بك أحد أعوانه فسألهم عن مطالبهم ومقاصدهم من وراء هذا التمرد فقالوا له:
ـ نريد العدل ورفع الظلم والجور وإقامة الشرع وإبطال الحوادث (يقصدون حوادث السلب والنهب من جانب عساكر المماليك)، ونريد إلغاء المكوسات التي ابتدعتموها وأحدثتموها (الضرائب والإتاوات والفرد المفروضة على الأهالي بدون وجه حق).
لكن أيوب بك الدفتردار مندوب إبراهيم بك رد عليهم بأنه “لا يمكن الإجابة إلى هذا كله، لأننا إن فعلنا ذلك ضاقت علينا المعايش والنفقات”، فقيل له هذا ليس بعذر عند الله، ولا عند الناس، وأنه لا يمكن أن يعيش الحاكم في بحبوحة من العيش، ويعيش الناس في فقر وإملاق، وقال الشيخ الشرقاوي: هل من المعقول أن تتمتعوا وغيركم يتقطعوا؟ وتابع عمر مكرم: وإن طلبتم ما في طاقتنا لدفعنا، ولكنكم تجبرون الناس على الثورة، والناس في ضيق من أفعالكم. وأضاف الشيخ السادات: ويل للحاكم من شعبه، إن كان هو وحده المستريح، وتساءل مستنكرا: ما الباعث على الإكثار من النفقات وشراء المماليك، وهل لا يكون الأمير أميراً إلا بكثرة ما يملكه أو بكثرة ما ينفقه؟.
خاف أيوب من سوء العاقبة إن استمر في المجادلة والمناقشة. فقال: ما على الرسول إلا البلاغ، وسوف أبلغ وأعود لكم، ولكنه لم يعد، وانفض المجلس. وتصاعدت وتيرة الاحتجاجات، وبدأ الناس يستعدون لإقامة المتاريس، وعمل الكور من النار وجمع النبابيت والعصي والمدى، وبدأ الخطباء يحمسون الناس ضد الظلم والضرائب الجائرة، وبدا أن الأوضاع على وشك الانفجار.
شعر المماليك بالخطر، ورأوا أن المصلحة تقتضي إرضاء العامة والمشايخ وعدم مواجهة هذه الثورة، واقتنعوا بضرورة مسايرة الموقف وعدم التصدي لجموع الشعب وزعاماته، وأرسل مراد بك بعض الرسل إلى الأزهر ليأتوا له ببعض المشايخ ليتفاهم معهم في مطالب الشعب.
ذهب مشايخ الأزهر ومعهم السيد عمر مكرم إلى منزل مراد بك بالجيزة، وخرج العامة من ورائهم في كتل شعبية تخوفاً من أن يغدر بهم المماليك، وطلب السيد عمر مكرم منهم الانتظار والاستعداد وقال لهم: «إن لم نعد بعد ساعتين على الأكثر فعليكم القيام بما ترونه».
حضر الوالي العثماني إلى منزل إبراهيم بك حيث اجتمع بالأمراء هناك، وتقابل للمرة الأولى مع كل من السيد عمر مكرم نقيب الأشراف، والشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ الجامع الأزهر والشيخ محمد البكري والشيخ أبو الأنوار السادات والشيخ محمد الأمير.
مماطلة وإذعان
طال الحديث في اجتماع الزعامات الشعبية وأمراء المماليك والوالي العثماني، وشدد العلماء على تلبية مطالب الشعب، ولما طال بهم الوقت في الأخذ والرد أحس الناس بالمماطلة فتعالى هتافهم: الله أكبر، الله أكبر، وبدأوا يقيمون المتاريس، وعلت أصواتهم مطالبة بالعدل ورفع المظالم، واضطر المماليك للخضوع لأول مرة لإرادة الشعب، وانتهى الاجتماع على أساس أن أمراء المماليك قد تابوا ورجعوا والتزموا بما اشترطه العلماء عليهم وتم الصلح بينهم بالشروط التالية:
ـ أن يدفع أمراء المماليك ما كانوا قد اغتصبوه من الشعب ومقداره سبعمائة وخمسين كيساً، وأمر المشايخ بتوزيعها على أهل بلبيس وبعض فقراء القاهرة.
ـ استئناف إرسال غلال الحرمين التي كانوا قد امتنعوا عن إرسالها وإعادة صرف غلات الشون وأموال الرزقة التي كانوا قد استولوا عليها، واستئناف أداء العوائد المقررة لأهل الحجاز التي كانت تتكفل مصر الإسلامية بها بشكل دائم.
ـ إبطال المكوس الجديدة، وعدم فرض أي ضرائب بدون وجه حق وبدون استشارة العلماء وزعامات الشعب.
ـ أن يكفوا أتباعهم عن امتداد أيديهم إلى أموال الناس.
ـ أن يسيروا في الناس سيرة حسنة.
وحتى يضمنوا تنفيذ كل هذه الشروط، طلب الزعماء من القاضي الذي كان حاضراً بالمجلس كتابة حجة عليهم تحتوي كل الشروط السابقة، ووافق عليها الباشا، وختم عليها إبراهيم بك بخاتمه، ولما لم يكن مراد بك حاضراً للاجتماع فقد حرص عمر مكرم على ضرورة أن يقوم بتوقيعها وأقترح إرسالها إليه للتوقيع عليها فختمها بخاتمه وتعهد بتنفيذ ما جاء بها.
وما إن وُقِعت الحجة بخاتم إبراهيم بك ومراد بك ووقع عليها الباشا العثماني بنفسه أمام زعامات الشعب حتى رجع المشايخ ومن حولهم العامة وخرج الناس يهتفون الله أكبر، جاء الحق وزهق الباطل، وفتحت الأسواق من جديد وسكنت الأحوال.
إرهاصات الدستور
كانت تلك الحُجة أول محاولة حقيقية لتنظيم بعض شئون العلاقة بين الحكام والمحكومين، وأسفرت ثورة يوليو سنة 1795 في القاهرة بقيادة المشايخ والفقهاء وعلي رأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي شيخ المشايخ بالجامع الأزهر الشريف عن خضوع أمراء المماليك لمعظم مطالب الشعب، بل لقد أرغم الشيوخ الأمراء على التوقيع على وثيقة يتعهدون فيها برفع المظالم، وعدم العودة إليها مرة أخري، ووصف بعض الباحثين تلك الوثيقة بأنها «ماجنا كارتا»[1] مصرية تشبيهاً لها بالعهد الأعظم الذي فرض على ملوك إنجلترا الالتزام بنظام دستوري على إثر الثورة الإنجليزية التي قام بها النبلاء سنة 1215 م ضد الملك جون الثاني، وأخذوا عليه ما عرف باسم العهد الأعظم (ماجنا كارتا).
وتخبرنا وقائع التاريخ بأن زعماء المصريين صمموا على توثيق التعهد في صورة حجة شرعية[2] موقعة من أصحاب السلطة والسلطان في مصر وهم الباشا وشيخي البلد مراد بك وإبراهيم بك.
رغم بساطة هذه الحجة الشرعية وبعدها عن الأسلوب التقليدي للدساتير الحديثة، التي تصاغ في شكل مواد متتابعة، ورغم أن المفجر للثورة والدافع لتحرير الوثيقة مطالب اقتصادية تتعلق بمعاش الناس، إلا أن هذه الوثيقة تتضمن عدة أمور دفعت المؤرخين إلي التعامل معها باعتبارها تحمل الإرهاصات الأولي لفكرة التزام الحاكم أمام المحكومين، وهذا هو جوهر فكرة الدستور، فقد صيغت الحجة الشرعية أو الوثيقة كعقد اتفاق بين المشايخ باعتبارهم ممثلين للشعب وبين كبار الأمراء الذين يديرون أمور البلاد، ودونت لدي أعلي سلطة قضائية إدارية في ذلك الوقت، وتضمنت الوثيقة كذلك تعهدات من الأمراء بإنهاء أسباب الشكوى، وعدم تكرارها مرة أخري، وجعلت العلماء والشيوخ رقباء علي التزام الحكام بهذه الشروط وأشركتهم في المسئولية عن استخلاص حقوق الناس.
كانت تلك الثورة فاتحة لمرحلة جديدة استمرت لأكثر من قرنين كافح فيها المصريون من أجل حكم بلادهم، وتبلورت مطالبهم حول هدفين اثنين: حكم أنفسهم بأنفسهم، والتخلص من الحاكم الأجنبي. صاغ المصريون فيما بعد شعارا لهذا النضال تلخص في كلمتين “الاستقلال والدستور”، ثم تطور الأمر إلى وضع دستور للبلاد يحد من سلطات الحاكم ويحمي حريات المواطنين ويؤسس لدولة تقوم على مبدأ المواطنة.
كشفت ثورة يوليو سنة 1795 ضعف الحكم العثماني ومدي كره المصريين لحكم المماليك، كما أنها أوضحت بلا شك قوة الأزهر الشريف في الدفاع عن الحقوق ومساعدة الفقراء والبؤساء، أما الفرنسيون فقد نظروا لتلك الثورة علي كونها علامة على أن المماليك أضعف من أن يوقفوا حملتهم القادمة على مصر.
لم يمض وقت طويل قبل أن يعود المماليك إلى سيرتهم الأولى، واعتبروا تلك الوثيقة لا تساوي قيمة المداد الذي كتبت به، وعاد مراد بك بالذات إلى سيرته الأولى، بل وفوق ذلك لم يلبث أن زاد من مظالمه، وفرض الكثير من الضرائب وساءت الأحوال عما كانت عليه، ما سهل على نابليون احتلال مصر سنة 1798.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] الماجنا كارتا: أو الميثاق الأعظم هي وثيقة إنجليزية صدرت لأول مرة عام 1215 م، ثم صدرت مرة أخرى في عام 1216 م، ولكن بنسخة ذات أحكام أقل، وهي أول وثيقة تُفرض على ملك إنجليزي من مجموعة من رعاياه (وهم البارونات)، في محاولةً للحد من نفوذه وحماية امتيازاتهم قانونياً، وتعتبر الماجنا كارتا إحدى أهم الوثائق القانونية في تاريخ الديمقراطية، ومهدت على نطاق واسع في العملية التاريخية التي أدت إلى سيادة القانون الدستوري اليوم.
[2] الوثيقة التي فرضتها ثورة سنة 1795
حررت الوثيقة في 27 من ذي الحجة سنة 1209 هجرية الموافق 15 يوليو سنة 1795 ميلادية وهي مسجلة في سجلات الديوان العالي وجاء نصها:
(توافق كل من ساداتنا أرباب السجاجيد وساداتنا علماء الإسلام مصابيح الظلام، متع الله بوجودهم الأنام، مع كامل الأمراء الكرام علي تنزيل جوامك المسلمين المطلوبة من المال الميري، وإجراء جرايات المستحقين، وعلوفات الفقراء والمساكين وإجراء منورية الجامع الأزهر، ومحفل العلم الشريف الأنور، وجراياته، من وقفه الخاص به ولا يؤخذ له شيء من المكوس والمظالم ومنع التفاريد علي البلاد والرعايا والفقراء، ومنع ترك الكشاف الجائرة في بلاد الله التي خربوها ونهبوها ودمروها، وأن ترفع المكوس الجارية في البنادر والموارد وما جعل علي المآكل والمشارب، وإزالة جميع الحوادث والمظالم من جميع الأقطار المصرية، والتزموا ألا يتعرض أحد منهم إلي السادة الأشراف القاطنين بجميع البلاد لا بشكوى ولا بأذية، ولا بضرر ولا بوجه من الوجوه، وأن ينتهي أمرهم في حوادثهم الخاصة بهم إلي أفنديهم ونقيبهم في سائر الأقطار والأزمان، وألا يتعرض أحد منهم لنواب الشريعة المحمدية بوجه يضر بهم، وأن ينتهي أمرهم في كامل حوادثهم المتعلقة بهم، إلي أفنديهم مولانا شيخ الإسلام قاضي عسكر أفندي بمصر في جميع الأزمان، فأجابوا حضرة الأمراء الكرام بالسمع والطاعة وعدم مخالفة الجماعة، وأن يبطلوا هذه المظالم الحادثة، التي أضرت بالإسلام والمسلمين وأبادت أموال الفقراء والمساكين وحصل فيها الضعف والجور المبين، وامتثلوا جميعاً ما طلب منهم، وأشير له عليهم، وعاهدوا الله سبحانه وتعالي علي ألا يعودوا إلي تلك الأفعال، وكل من خالف ذلك، أو سعي في إبطال شيء من ذلك، فيكون علي ساداتنا أرباب السجاجيد وعلماء الإسلام والأمراء قهره واستخلاص كامل ما هو مطلوب منه لأربابه كائن من كان).
وتضم بنود الوثيقة:
– يدفع أمراء المماليك ما كانوا قد اغتصبوه من الشعب ومقداره سبعمائة وخمسون كيسا من الذهب، حيث أمر المشايخ بتوزيعها على فقراء القاهرة.
– أن يرسلوا غلال الحرمين الشريفين التي كانوا قد امتنعوا عن إرسالها إلي أهل الكعبة ويعيدوا صرف غلاّت الشون وأموال الرزقة التي كانوا قد استولوا عليها، كما وافقوا على إرسال العوائد المقررة لأهل الحجاز التي كانت تتكفل مصر الإسلامية بها بشكل دائم.
– أن يبطلوا المكوس الجديدة وألاّ يفرضوا أي ضرائب بدون وجه حق وبدون استشارة العلماء وزعامات الشعب.
– أن يكفّوا أيدي أتباعهم عن أموال الناس.
– أن يسيروا في الناس سيرة حسنة.
أما الفرنسيون فقد نظروا لتلك الثورة علي كونها علامة على أن المماليك أضعف من أن يوقفوا حملتهم القادمة على مصر.
لم يمض وقت طويل قبل أن يعود المماليك إلى سيرتهم الأولى، واعتبروا تلك الوثيقة لا تساوي قيمة المداد الذي كتبت به، وعاد مراد بك بالذات إلى سيرته الأولى، بل وفوق ذلك لم يلبث أن زاد من مظالمه، وفرض الكثير من الضرائب وساءت الأحوال عما كانت عليه، ما سهل على نابليون احتلال مصر سنة 1798.