رؤى

الشبكات الاجتماعية العنيفة.. مدخل للفهم ( 1ـ 2)

الشبكة ليست تنظيما، فالتنظيم ربما احتاج لسنوات عدة لبنائه كما أن له منطقه العقلاني الذي يتأسس عليه، وهنا ينفصل التنظيم بقواعده عمن أسسوه، فعقلانية التنظيم تجعل بقاءه الهدف الأعلى والنهائي.

لا يعرف التنظيم فكرة التراحم والأخوة ولا معنى “ولا تنسوا الفضل بينكم”، لذا عندما لا يخضع المنتسب لقواعد التنظيم ولوائحه يتم استخدام القسوة في طرده بلا رحمة، مع استخدام أدوات غير أخلاقية في تلويث سمعته أو نشر أخبار كاذبة عن سبب خروجه من التنظيم.

التنظيم يحتاج إلي قيادة يمكنها أن تأخذ التنظيم إلى حيث تريد دون أن يعرف أعضاء التنظيم عن ذلك شيئا، كما حدث عندما أخذت المجموعة التي تؤمن بالعمل السري داخل تنظيم الإخوان الضخم أفراده إلى التخديم على أهداف سرية وعنيفة لم يكن هؤلاء الأفراد يؤمنون بها.

كما عرف تنظيم الإخوان ظاهرة “المرشد السري” الذي يتم اختياره من مجموعة متنفذة داخل التنظيم ولا يتم الإعلان عنه، وكان هو من يمثل قوة القرار بينما المرشد المعلن نفسه وقتها، عمر التلمساني، لا يعلم بذلك.

وأشار الدكتور عبد العزيز كامل في مذكراته إلى أن عبد الرحمن السندي الذي كان يقود التنظيم الخاص للإخوان وهو لا يزال بعد طالبا في كلية الآداب فهم من كلام البنا أن يقدم التنظيم علي قتل القاضي أحمد الخازندار، وكان القضاة يمثلون في الوعي الجمعي فئة مستقلة لا يجوز التعرض لها بالقتل أو الإيذاء.

عمر التلمساني، أحمد الخازندار

التنظيم يحتاج إلي أيديولوجية وفاعلين من أجيال متنوعة وقد يمتد به الأجل للبقاء لوقت طويل، وبينما يحتاج التنظيم في فترات الإعداد الأولى قدرا من التضحيات فإنه في مراحل الدعة والراحة والتوافق مع النظم السياسية يكون بابا واسعا يدخل منه كثيرون للانتفاع والاستفادة. وتحتاج الأيديولوجية لشكل من أشكال التجديد قد يجد منتسبو التنظيم في مراحل لاحقة أنفسهم عاجزين عن متطلباته، ما يجعل التنظيم عبئا علي العمل السياسي.

وتتسم العلاقات في التنظيمات الكبيرة بالغموض والتعقيد كما أنها تأتي من أعلي إلى أسفل، ويكون الفاعلون في أدنى سلم التنظيم غير واعين بما يجري وغير قادرين علي استيعابه وفهمه، هم مجرد متلقين كقوة من الانكشارية مستعدة دوما لتلبية النداء حين يُطلق البروجي.

تختلف الشبكات الاجتماعية عن التنظيم، فهي صغيرة وربما تمثل في حجمها أحد عناقيده، وهي بالضرورة ذات طابع اجتماعي يتأسس على علاقات الثقة بين أعضائها، وهي علاقات تقوم علي القرابة والصداقة والمصاهرة والجيرة بين الأعضاء.

ولا تحتاج هذه الشبكات في بنائها إلى وقت طويل، وهذا سر فعاليتها وتحديها للأجهزة التي تراقب وتتابع، فغالب أعضائها وربما جميعهم لم يسبق له الدخول إلى مجال الشبكات العنيفة. والأغلب أن تكون الشبكة الاجتماعية العنيفة منتمية إلي منطقة جغرافية محددة أو متقاربة، فلا تتمدد مثل هذه الشبكات علي مساحات جغرافية متسعة ولها طابع محلي بالضرورة.

ورغم أن هذه الشبكات قد تتبني أفكارا متناثرة من أيديولوجيات مختلفة إلا أن الأيديولوجية هنا تتراجع بشكل كبير لتحل محلها التفاعلات والديناميات بين أعضاء الشبكة، ولا يكون الثقل في فهم الشبكة للأيديولوجيا أبدا وإنما في ديناميات وعلاقات تقوم أساسا علي المشافهة والمساواة بين أعضاء الشبكة وسهولة توزيع المهام بينهم وسرعة القيام علي تنفيذها، وهنا يكمن خطر الشبكات الاجتماعية العنيفة.

وتنتمي مثل تلك الشبكات في غالبها إلى جيل واحد من الشباب حديث السن قليل الخبرة، فعمر الشبكة القصير وأهدافها المحددة لا تجعلها تمتد لتتسع لأجيال داخلها، وغالبا ما يكون الشخص الأبرز في الشبكة أكبر قليلا في العمر والخبرة من زملائه، ما يؤهله لمهام القيادة داخل الشبكة.

ولا تمتلك الشبكات الاجتماعية العنيفة غالبا القدرة علي البقاء كما هو الحال في التنظيمات الكبيرة، وبمجرد كشفها فإن المخاطر التي كانت تمثلها تتراجع، فهي تمثل تحديا وخطرا على المدي القصير بينما تمثل التنظيمات الكبيرة تحديا على المدي البعيد. وأغلب أسماء الجماعات التي خرجت علينا في مصر بعد عام 2013، مثل حسم، ولواء الثورة، وكتائب حلوان، والمقاومة الشعبية، وغيرها هي شبكات أكثر منها تنظيمات.

وعلي مستوى العالم يمكننا اعتبار المجموعة التي نفذت هجمات إرهابية على باريس والباتكلان وملعب فرنسا ومواقع متعددة أخرى عام 2015 بقيادة صلاح عبد السلام وشقيقه إبراهيم وعبد الحميد أبو عود، واسفرت عن قتل ما يقرب من 130 شخصا، هي شبكة اجتماعية ذات طابع إرهابي، تتسم بسيطرة أكبر وقدرات سطو فكري أعلي من التنظيمات.

أحداث ملعب باريس

يدخل أعضاء الشبكة مباشرة بدون تدرج دعوي ليصبحوا جزءًا من الشبكة، ومن ثم فإن معرفتهم بالدين تكون قليلة وربما غائبة ويكون توجيههم أسهل نحو العمل الذي تريده الشبكة.

نحن إذن أمام شبكات اجتماعية ذات طابع راديكالي، ورغم استخدامنا أدوات تحليل الحركات الاجتماعية لفهم تلك  الشبكات العنيفة فإن الحركات الاجتماعية ذات الطابع السياسي كما ناقشها علماؤها مثل تشارلز تيلي هدفها في التحليل النهائي أن تكون جزءًا من السياسة العامة والعملية السياسية، بينما نحن هنا أمام شبكات ذات طابع راديكالي تضع نفسها في مواجهة الدولة والمجتمع وتعتمد العنف أداتها لتحقيق ما تعتبره أهدافا لها، ومن ثم فإن تلك الشبكات العنيفة هي أحد العوائق الخطيرة أمام التحول الديموقراطي لمجتمعاتها، وغالبا ما تشجع علي صعود اتجاهات في الحكم ذات طبيعة سلطوية واستئصالية بدعوي مواجهة خطر تلك الشبكات.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock