لماذا يخلط الناس بل والإعلام بين الدولة والنظام السياسى؟ فالدولة بناء عقلى يتحقق فى التاريخ، يقوم على حقوق الفرد ونظام الأسرة والتكوين الاجتماعى والشعب، الأساس الإنسانى للدولة ونظام الحكم. فالنظام السياسي هو الشكل الأخير فى بناء الدولة الذى يقوم على حقوق الإنسان أولاً، ومن ثم لا تعارض بين الليبرالية التى تقوم على حقوق الفرد والاشتراكية التى تضمن حقوق المجتمع.
هناك تعارض جوهرى بين الدولة والنظام السياسي، فالدولة باقية والنظام السياسي متغير طبقا للقوى السياسية فى البلاد، الجيش والشرطة أو الشعب والمؤسسات.
يبقى النظام السياسي طالما كان متطابقا مع بناء الدولة، ويقع إذا ما تصادم معه، فالدولة واحدة، ونظمها السياسية متعددة. مصر هى مصر، توالت عليها النظم الفرعونية والقبطية واليونانية والرومانية والإسلامية والغربية الحديثة، الليبرالية رأسمالية أو قومية اشتراكية.
الدولة لها اسم ثابت على مر التاريخ مثل مصر، العراق، سوريا، اليمن، تونس، المغرب، وهى الدول التاريخية، فى حين أن النظم السياسية تتغير أسماؤها من مصر إلى مملكة مصر، دولة مصر، جمهورية مصر، الجمهوريات العربية المتحدة حتى استقرت الآن على جمهورية مصر العربية، جمعا بين الثبات، مصر، والتغير، الجمهورية العربية.
الدولة باقية عبر الزمان ومراحل التاريخ، ولها اسمها العربى المذكور فى القرآن «اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ»، وظل الاسم اليوناني «إيجبتوس» هو المحافظ عليه فى اللغات الأجنبية. أما النظام السياسى فهو ابن وقته كما يقول الصوفية، طبقا لموازين القوى داخليا وخارجيا.
هي مصر أولا، وكعبة الوطن العربى ثانيا، ومركز العالم الإسلامى ثالثا، وإحدى الدول الأفريقية رابعا، ومكون من مكونات الشرق الأوسط القديم أو الجديد أو الكبير خامسا، وعاصمة منظمة الشعوب الآسيوية الأفريقية سادسا، ومؤسس منظمة الوحدة الأفريقية سابعا، وزعيمة دول عدم الانحياز، والحياد الإيجابى، والعالم الثالث ثامنا، وأخيرا إحدى دول الحصار الأربعة.
وتظل الأغانى الوطنية عن مصر هي الباقية مثل «يا حبيبتى يا مصر»، «أحبك يا مصر» أو الأشعار مثل «مصر، مصر أمنا»، «مصر التى فى خاطرى وفى فمى».
الدولة هي ظل الله فى الأرض، كما يقول هيجل، بحثا عن أساس فلسفى لبناء الوحدة الألمانية أو «الحاكمية لله» كما تقول الجماعة الإسلامية الحالية، أما النظام السياسى فقد يكون من فعل الشيطان إذا كان يضر بالناس أو من صنع الملاك إذا كان يحقق مصالح الناس.
فالتمييز الشعبى العنصرى كالنازية والفاشية والصهيونية والطائفية وتقسيم الدين الواحد إلى طوائف متناحرة كالسنة والشيعة والزيدية والشافعية، والبروتستانتية والكاثوليكية أو بين الديانات مثل المسلمين والأقباط أو المسلمين والهندوس، والعرقية كالعرب والأكراد والأرمن من فعل الشيطان، فى حين أن التسامح والمحبة والاحترام المتبادل والاعتراف بحقوق الغير من فعل الملاك. الدولة كبناء صوري بريئة من خرق حقوق الإنسان وعدم المساواة والفساد والتهريب، أما النظام السياسي الاستبدادي فهو المسؤول عن الاعتقال والتعذيب وتكميم الأفواه واللا مساواة بين الأغنياء والفقراء.
كلنا الدولة، وبعضنا النظام السياسي. كلنا الشعب، وبعضنا في الحكم، فإذا كان الحكم يمثل الأغلبية فهو الديمقراطية، وإذا كان يمثل الأقلية فهو الاستبداد. الدولة لا ديمقراطية ولا استبدادية بل هو النظام السياسي، ولا توجد دولة ناعمة أو خشنة بل هو النظام السياسي أو السياسات التى يتبعها، فالدولة أداة لتحقيق أهداف يحددها النظام السياسي.
والدولة ليست السلطة التنفيذية التي كثيرا ما تبتلع الدولة، وليست هي السلطة التشريعية التي تشرع للدولة والمؤسسات المستقلة ولا تتبع النظام السياسي، بل هي السلطة القضائية التي تحمي حقوق المواطن والجماعات، ويخضع الجميع لها باعتبارها ممثلة للقانون. وقد مر بنو إسرائيل بحكم القضاة فى مرحلة تاريخية بعد حكم الأنبياء، وقد قيل لا يجوز التعليق على حكم القضاء لاستقلاله ونزاهته وقيامه على العدل، وفي الأمثال «العدل أساس الملك»، وصورته على واجهات المحاكم الميزان، وهي أيضا صورة العدل الإلهى. الميزان لا يظلم، وهو مثل السماء والأرض «وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ».
الدولة هي الوطن، وهي ما يأمل الإنسان تحقيقه من خير وعدل، أما النظام السياسى فقد يكون هو السبب فى هجرة الأوطان، شرعيا أو لا شرعيا، فيصبح أجنبيا بدل المواطن من أهل البلد أو يغرق فى البحر أو يموت فى الصحراء عطشا، ولا مانع أن تكون الهجرة إلى إسرائيل، ويتزوج إسرائيلية وينجب ذرية إسرائيلية، فالطفل الإسرائيلى ينسب إلى أمه وليس إلى أبيه.
وقد صورت بعض الأفلام المصرية هذه المأساة بعد أن بلغ المصريون المهاجرون إلى إسرائيل بالآلاف، يظل طوال عمره مواطنا من الدرجة الثانية مثل عرب إسرائيل أهل البلاد حتى ولو وصلوا إلى الأغلبية بعد عشرات السنين. يتحول النظام الإسرائيلى إلى دولة ووطن، وتتحول الدولة العربية إلى نظم سياسية وهجرة، دولة تجذب المواطنين، ونظام سياسى يطرد مواطنيه.
في حالة أصبح النظام السياسي هو الدولة، وفي حالة أخرى أصبحت الدولة هي النظام السياسي، والمواطن ضائع في الحالتين، يحن إلى وطنه الأول وليس إلى دينه أو نظامه السياسي، ويظل الحنين إلى الأوطان هو الحامي للدولة، وتظل أغانى سيد درويش فى ثورة 1919 تصدح فى القلوب.
- عن المصري اليوم