في الذكرى الثانية عشر على رحيله في 30 أغسطس 2006، نتذكر أديبنا الكبير نجيب محفوظ الذي لم يغب يوماً طوال هذه السنين.
عاش 42 سنة في مصر الملكية، و52 سنة في مصر الجمهورية، وعاصر أربعة حكام في مصر قبل الثورة، وأربعة آخرين بعدها. بدأ حياته مع الخديوي عباس حلمي الثاني، وانتهى مع الرئيس حسني مبارك. أطول فترة عاشها خلال مصر الملكية كانت في حكم الملك فؤاد (1918 -1936)، وأطول فترة في عهد الجمهورية كانت تحت حكم الرئيس حسني مبارك (1981 -2006).
عاش في مصر الواقعة تحت النفوذ العثماني، ومصر المحتلة من الإنكليز، وعاش نصف حياته في مصر وهي تحاول أن تنفض عنها أغلال الاستعمار الأجنبي وقيود الاستبداد الملكي، ثم استقبل وهو في منتصف العمر ثورة كبرى على الأوضاع القديمة، أيدها وانتمى إليها، ونقدها، وكان يأمل منها أكثر مما حققت، ففقد حماسه لها، وفي كل الوقت كان وفياً لوفديته.
عاصر حكاماً بدءاً من الخديوي عباس حلمي الثاني حتى الرئيس مبارك، وسجل آراءه وآراء الناس في طريقة حكمهم، وما عاصرهم من أحزاب سياسية، فكان شاهداً على العصور، ومؤرخاً بالأدب.
اختار نجيب محفوظ لنفسه بدقة دائرة الحركة في الحياة، وانحاز إلى أن يكون كاتباً وأديباً ولا شيء غير ذلك. من خلال الأدب يستطيع أن يعبر عن مواقفه وأفكاره السياسية، أما العمل السياسي المباشر فلم يكن يميل إليه أبداً ولم يقترب منه طوال حياته لأنه كان كفيلاً بأن يجره إلى دوامات تسحبه من اهتمامه الأول ألا وهو الأدب.
موقف نجيب محفوظ من السلطة حكمته مكونات شخصيته، وتحكّمت فيه نظرة الموظف، كأي موظف أمضى 37 سنة من حياته في دهاليز الوظيفة الحكومية، كان لصاحب السلطة عنده شأن عظيم في نفسه سواء كان ملكاً أو رئيساً للجمهورية، أو حتى من هم أقدم منه وأعلى في الدرجة الوظيفية.
ومثل أي مصري كان يتجنب السلطة، لا يتقرب منها، ولا يجاملها، إلا في الحدود الدنيا، وربما بعد ضغط وإلحاح، وهو إن فعل فمن منطقة «المسالمة» وتجنب ضررها، عاملاً بالحكمة الشعبية المصرية القائلة: «يا نحلة لا تقرصيني ولا عايز عسلك»، فإذا استبدلنا السلطة بالنحلة فإن نجيب محفوظ، كمصري أصيل، لم يكن يتوقع من السلطة خيراً، بل كان يريد أن يتجنب أو يتحاشى أن تلدغه.
خاض محفوظ غمار «الوظيفة» حتى وصل إلى محطته الأخيرة بالتقاعد، وخاض مغامرة الكتابة حتى حدودها القصوى، لم توقفه عقبة، ولم يتوقف عند قيود. كتب «أولاد حارتنا» التي حاكم فيها بناء الأفكار في المؤسسة الدينية بما لها من سطوة في المجتمع على عقول الناس، وكتب «ثرثرة فوق النيل» ينتقد فيها السلطة السياسية نقداً لاذعاً على لسان «المساطيل» في ملهاة ساخرة حد البكاء، لكنه في حياته لم يصطدم بالسلطة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية أو دينية، رغم أنه فعل ذلك كله في أدبه.
كانت له وجهة نظر خاصة في السلطة بأنواعها، واهتم بشكل مكثف بنقد السلطة السياسية في رواياته. كان يدرك الأهمية الشديدة للسياسة والسياسيين في تحقيق تقدم مصر أو تخلفها، ويتتبع الأخبار السياسية باهتمام شديد، تجد السياسة حاضرة في جميع ما كتب، والصراع السياسي عنده موجود حتى في رواية «أولاد حارتنا» التي يمكن أن نصفها بأنها رواية ميتافيزيقية يدور الصراع فيها على «الوقف».
رغم ذلك نجده ميالاً إلى العزوف عن الخوض في أي حديث مباشر في السياسة، أو التورط في تفاصيلها اليومية، يدفعه إلى ذلك حرصه على حماية نفسه وتجنبه صراعاتها من ناحية، وحرصه على أن يهيئ لنفسه الظروف اللازمة لاستمرار إنتاجه الأدبي من ناحية أخرى. كانت الكتابة الأدبية هدف حياته الوحيد، وقال مرة إنه يشعر بأن الموت سيجيئه متى توقف عن الكتابة، الكتابة بالنسبة إليه مسألة حياة وموت، ولم يكن ليغامر في الدخول بنفسه فيما يمكن أن يتسبب في تعويقه عن الاستمرار فيها.
أقام محفوظ على الدوام «أسواراً» صدت عنه الكثير من العواصف التي اجتاحت حياة كثيرين من المثقفين في جيله والأجيال التالية، خصوصاً العواصف السياسية وتقلباتها وما يترتب على الانغماس فيها من مصاعب ومنغصات كثيرة إذا ما اصطدم رأي الكاتب بالسلطة، وكان يرى أنه في غنى عن ذلك كله، وأن كل إنسان ميسر لما خلق له.
«كان نجيب محفوظ شخصاً ذكياً جداً، وفي غاية الكياسة، حين ابتعد عن التنظيمات السياسية كافة، فلم ينضم يوماً إلى حزب، فبدا وكأنه مع الجميع، وضد الجميع في الوقت نفسه».. بهذه الكلمات لخص الروائي خيري شلبي وجهة نظره في موقف نجيب محفوظ السياسي. ويضيف توضيحاً: حين كان محفوظ يجلس معنا على مقهى «ريش» كنا نحار في معرفة رأيه الحقيقي في هذا الأمر أو ذاك، وحين كنا نسأله في السياسة بشكل مباشر، كان يجيب إجابات غير قاطعة، وهذا أمر عظيم جداً، لأنه لا يملك الإجابة، ولا يدعي معرفة الحقيقة وحده، وكان حين يجيب يضع في اعتباره الآراء كافة التي تناقض رأيه.
حضرت السياسة في رواياته بالمفهوم العام لها، وغابت السياسة بمفهومها الحركي اليومي وبتفاصيل صراعاتها الحزبية، لم تكن مثل هذه الصراعات تستهويه ولا تثير اهتمامه، وربما كانت تثير امتعاضه. بدأت علاقته بالحياة السياسية مبكراً، تأثر أولاً بميول أبيه الوفدية، وتشرب منه حبه لزعيم الأمة سعد زغلول، وتولى مدرسوه تزكية تلك الروح الوطنية لديه، فكانوا يشجعونه هو وغيره من الطلاب على الخروج في تظاهرات للمطالبة باستقلال مصر، وكان يحرص على المشاركة فيها بطفولية أولاً ثم بمشاعر وطنية متأججة فيما بعد حين شبّ عن الطوق.
كان انحيازه كاسحاً لثورة 1919، التي عاصر انطلاقتها صغيراً، وكانت بحق أول تمرد شعبي واسع ضد الاحتلال، تجلت فيها الروح الوطنية بأوضح معانيها، واشتركت فيها طوائف الشعب كافة، انخرط طلاب المدارس العليا والثانوية في موجة المد الوطني، وامتدت تلك الموجة إلى تلامذة المدارس الابتدائية بتحريض من طلاب المدارس العليا.
أول تظاهرة شارك فيها محفوظ كانت تلك التي اندلعت في ركاب الخلاف بين سعد زغلول والملك فؤاد في عام 1924، كان عمره يومها لا يتعدى 13 عاماً. كانت المرة الثانية في عام 1929 أثناء حكومة محمد محمود الثانية، وطارده ضابط هو وصديقه فلاذ محفوظ ببيت الأمة. وكانت الثالثة ضد إسماعيل صدقي، تعرض لمطاردة أيضاً لكنه هذه المرة لاذ ببيت في حارة ضيقة، وتمكن بمساعدة إحدى نساء المنطقة من الهرب إلى سطح بيت مجاور.
اقتصرت مشاركاته السياسية على التظاهرات الوطنية، وحرص دوماً على الابتعاد عن أية علاقة مباشرة مع مسؤولين سياسيين، ولم يحدث أن شارك في أي حزب سياسي، بما فيها «الوفد» الذي انتمى إليه وجدانياً واعتنق مبادئه وأفكاره.
اكتفى بأن يعبر في رواياته عن رؤيته النقدية للواقع الاجتماعي والسياسي المصري على مر العصور، ومن موقع اللامنتمي إلى أية جماعة سياسية انتقد محفوظ الطبقة السياسية الحاكمة في كل أعماله الروائية.
انتمى محفوظ إلى جيل يعشق سعد زغلول ومصطفى النحاس ويؤمن إيماناً عميقاً بالديمقراطية السياسية، يقول: «قبل الثورة كان ثمة ملك وإنكليز وشعب يمثله الوفد». يصف الحكم آنذاك بأنه حكم «أوتوقراطي»، ولا يمكن اعتباره حكماً ديمقراطياً في وجهة نظره، خصوصاً أن الوفد صاحب الأغلبية الكاسحة لم يتمكن من الحكم إلا ست سنوات فقط، لكنه يستدرك فيقول: «إنما كان ثمة شعب حي مثّله حزب قوي يقاوم الاحتلال من جهة والملك من جهة ثانية، والملك رغم سلبياته لم يحكم وحده، بل دائماً كان معه مجلس نواب ومجلس شيوخ وصحافة، وفي أسوأ الظروف كان ثمة قضاء مستقل وقدر من الحرية الثقافية، وكانت في العصر مظاهر الحياة الديمقراطية وليس فيه ديمقراطية». وكان يرى أن العيب الأكبر فيما قبل ثورة يوليو يتمثل في غياب البعد الاجتماعي، «فالظلم الاجتماعي في تلك الفترة لم يكن الدفاع عنه ممكناً».
أقبل نجيب محفوظ على ثورة يوليو مؤيداً، لكنه أعرض عنها فيما بعد ناقداً، وبقي على ولائه الأول من دون أن يهتز أو ينقص، ويمكن أن تحسبه على يسار «الوفد». هو نفسه يعترف بأن الوفد مات بعد عام 1936، وعاش بعدها إلى قيام الثورة حياة مفتعلة. كان أمله في تلك الفترة أن يتقوى الجناح اليساري في «الوفد» ليفتح صفحة جديدة في حياة الأمة تضاف إلى صفحة 1919، ورغم ذلك كان انحيازه في الصراع بين عبد الناصر ومحمد نجيب موجهاً إلى نجيب «لأنه كان منحازاً إلى الوفد والديمقراطية»، وكان يعتقد أن عبد الناصر لو كان انحاز إلى الوفد «لتحققت له شعبية ساحقة، ولتغير وجه مصر».
كان محفوظ بلا شك أكثر اهتماماً بقضية العدل الاجتماعي، يشعر بالامتنان لنظام عبد الناصر بسبب إجراءاته الاقتصادية وما فعله للفقراء، لكنه لم يغفر له إجراءات عدة رآها ديكتاتورية، ولم يكن على استعداد لأن يتغاضى عن القيود المفروضة على الحريات في سبيل تحقيق التقدم في مجال العدالة الاجتماعية. كان أكثر إدراكاً بدور الديمقراطية في تقدم الأمم، من هذا الإدراك تناول النظام السياسي في كثير من رواياته، وإن لم يتجاوز الخطوط الحمر التي يمكن أن تعرضه لمشاكل مع السلطة، يقول: «كنت أكتب بحرية تامة، ولكن لا شعورياً أقف عند حدود معينة قبل الثورة وبعدها، رغم ذلك كتبت أموراً أثناء حكم جمال عبد الناصر اعتبرها البعض ضرباً من الجنون».
المستشرقة الروسية «فاليريا كيربتشينكو» التي رأت أن مشكلة الأديب والروائي الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي (1821-1881) تكمن في أنه «حفار قلوب» لا يرى إلا عيوب البشر حتى من مجرد رؤية ملامحهم الخارجية في الشوارع، ترى أن نجيب محفوظ يتعامل مع أطيب الجوانب في الناس، ولا يسعى إلى اتهام أحد، وربما بحث عن عذر له حتى لو كان عدوه.
كانت أحكامه على حكام مصر الذين عاصرهم تنطلق من ضعف رؤيته وعدم تماسكها، فهو يراهم كلهم «طيبين»، ولكل منهم عيوبه كما ميزاته التي تغفر له بعض تلك العيوب. حتى الملك فاروق، رأى فيه نجيب محفوظ ما لم يره غيره من كتاب التاريخ، وعبّر عن اعتقاده بأنه لو كان تجنب الوقوع في بعض الأخطاء لكانت الملكية استمرت حتى يومنا هذا في مصر، وهي درجة تسامح ربما تصلح في العلاقات الشخصية والاجتماعية، لكن المؤكد أنها لا تفيد في تقييم موضوعي لحركة التاريخ ولا في تقدير الأوضاع السياسية المتغيرة.
يمكنك بسهولة أن تكتشف مواقف نجيب محفوظ من السياسات المطبقة في عصر من العصور، لكنك لن تستطيع بالسهولة نفسها أن تحصل على موقف محدد وواضح يدل على معارضة لنظام معين في الحكم أو لشخص معين من الحكام.
كتب نقداً للسياسات في عهد عبد الناصر، وكادت بعض رواياته أن تتسبب في أذى له، مثل «ثرثرة فق النيل» ومن بعدها «ميرامار»، لكن توقف الأمر عند غضب بعض جهات الحكم منه، واستطاع عبد الناصر أن يستوعبه، ذلك على عكس توفيق الحكيم الذي كان أقل استعداداً لتعريض نفسه لغضب السلطة، ولم يكن لديه الدافع القوى للتعبير عما لا يرضى عنه في النظام السياسي، مثلما كان لدى نجيب محفوظ. يقول محفوظ في صفحات من مذكراته عن كتاب «عودة الوعي» لتوفيق الحكيم أنه تبنى وجهة نظر مناقضة لما عرف عن علاقة الحب التي ربطت بين عبد الناصر وتوفيق الحكيم منذ قيام الثورة، كان الزعيم الذي حلم به الحكيم في «عودة الروح» هو عبد الناصر، وكان لدى عبد الناصر الإحساس نفسه، لذلك أكرم الحكيم دائما وأحبه، ومن هنا كانت صدمة «عودة الوعي».
تجنّب نجيب محفوظ الدخول في مواجهات سياسية علانية مع السلطة وحافظ على استقلاليته بعيداً عن الأحزاب والأطر السياسية، لذلك لم يدخل السجن لا في فترة الملك ولا في فترة عبد الناصر ولا في فترة السادات، كما حدث مع معظم المبدعين المصريين. المرة الوحيدة التي اتخذ فيها موقفاً معلناً من السلطة السياسية كانت حين وقّع على بيان أصدره عدد من المبدعين بمبادرة من توفيق الحكيم يطالبون فيه بالإفراج عن الطلاب المعتقلين جراء احتجاجاتهم على عدم حسم قرار المعركة ضد إسرائيل، فكان على رأس قائمة الممنوعين من الكتابة التي أصدرها الرئيس السادات في 4 فبراير سنة 1973، وشملت أسماء كبيرة منها توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين ومحمد عودة ومحمود آمين العالم وغيرهم، ثم صدر إلغاء المنع عن نجيب محفوظ في 28 سبتمبر من العام نفسه، أي قبل حرب أكتوبر بثمانية أيام.
محمد حسنين هيكل يعتبر أن من الظلم البين أن نقيس وضع المثقف في بلادنا على وضع المثقف في الخارج، ذلك أن بلادنا لم ينشأ فيها رأي عام قوي يستطيع أن يحمي المثقف، بالإضافة إلى صعوبة وجود المثقف الذي يستطيع الاستغناء عن الحكومة، بل أنه غالبا ما يعمل موظفاً لديها. هذه الصعوبة إضافة إلى الطبيعة الشخصية لنجيب محفوظ لم تجعله في أي يوم من الأيام «رجل معارك» في الواقع الأدبي والسياسي في مصر، وقد تحاشى دوماً صخب هذه المعارك، وربما لذلك لم تنزلق قدماه يوماً إلى السجن في أية مرحلة من حياته.
على هذا المنوال، كان حديثه في جلساته وندواته لا يشارف السياسة، بل كان يتجنبها ولو اضطر إلى ذلك كان كلامه مقتضباً جداً وغير مباشر، وأحياناً بصورة رمزية، وكان يؤكد دوماً أن معركته الحقيقية مع الورق، مع فعل الكتابة والإبداع نفسه.