رؤى

قاسم أمين.. النساء أولا

 قبل “تحرير المرأة” كان لقاسم أمين كتاب آخر منسي هو “المصريون”، كتبه بالفرنسية ردا على هجوم عنيف شنه الدوق الفرنسي داركور على المجتمع المصري منتقدا الدين الإسلامي والنخبة المستسلمة لأوضاع  رآها بعيدة عن المدنية الحديثة.

بدا “الثائر الاجتماعي” في كتابه الأول  محافظا إلى أبعد مدى، حيث دافع عن انقسام المجتمع المصري إلى مجتمعين: الأول للرجال والآخر للنساء، ليحمل على السيدات المصريات المتفرنجات اللاتي يخالطن الرجال، مبررا تعدد الزوجات، مهاجما المجتمع الغربي وانفتاحه “المفارق للفضيلة … المشجع على الانحلال الخلقي والاجتماعي”. لكن لم تمر عدة سنوات حتى نشر كتابه الأشهر “تحرير المرأة” متضمنا رؤى تباعدت بل تناقضت مع ما رآه في كتابه الأول.

 الهوة الفكرية بين الكتابين عبرها مستندا إلى تلمذته لمحمد عبده وصداقته لسعد زغلول حيث صحبه الرجلان إلى وجهة جديدة، كان في المقدمة من بين من قصدوها، ليتلقى صدمة البدايات، فالمجتمع المحافظ الذي احتفى بكتابه الأول، أفزعه ما أحدثه كتابه الثاني من رجة عنيفة لما عده ثوابت، لا مجال للعبث بها.

لم يزد قاسم أمين عن المطالبة بأن يكون للمرأة حق في اختيار زوجها، وبمنع زواج القاصرات، وتقييد تعدد الزوجات والطلاق، وإتاحة التعليم للمرأة حتى الابتدائية! لكن هذه المطالب المتواضعة أثقلت تقاليد المجتمع المحافظ، فحاول كهنته أن يدفنوا أفكار أمين تحت الركام الذي أحال أفكارهم إليه.

لم يلتفت قاسم أمين لتلك الانتقادات ليُخرج مؤلفه الثالث “المرأة الجديدة”، ويطالب لها بحق العمل، وبحقوقها السياسية، مكثفا هجمته على الحجاب (وهو النقاب كما كان يعرف في هذا العصر)، فوصفه بأنه “أفظع أشكال الاستعباد.. والكل متفقون على أن حجاب النساء هو سبب انحطاط الشرق.. وعادة لا يليق استعمالها في عصرنا.. وأول عمل يعد  خطوة في سبيل حرية المرأة هو تمزيق الحجاب”.

أفكار قاسم أمين عبدت الطريق لظهور الحركة النسائية بقيادة هدى شعراوي وصفية زغلول ونبوية موسى وسيزا نبراوي..، وامتدت مساهمة أمين إلى مدى أبعد، فكان من بين الداعين لإنشاء الجامعة المصرية، وتولى رئاسة اللجنة المشرفة على مشروع الجامعة بعد تعيين سعد زغلول وزيرا للمعارف.

هذه الرحلة الفكرية كانت نتاجا لحياة انتقل بها صاحبها من مصر إلى فرنسا في بعثة درس فيها الحقوق بجامعة مونبيليه، ليخالط المجتمع الفرنسي، ويطالع أفكاره ومعتقداته، وفي هذه الفترة عمل بجانب دراسته مترجما خاصا للإمام محمد عبده، لتنشأ بين الرجلين علاقة أظلت أطروحة أمين في “تحرير المرأة” بظلالها.

ذات التأثير أحدثته الأميرة نازلي فاضل، التي أغضبها ما جاء بكتاب أمين “المصريون” فاعتذر عنه صديقه سعد زغلول، وقدمه إليها، ليرى فيها قاسم أمين نموذجا لـ”المرأة الجديدة” التي بشر بها بعد ذلك، وكانت سببا لهجمة عنيفة قادها عدد كبير من كتاب ورموز عصره، من بينهم  طلعت حرب في كتابه “فصل الخطاب في المرأة والحجاب”، ومحمد فريد وجدي في “المرأة المسلمة”، ومصطفى الغلايني في “نظرات في السفور والحجاب”، ومصطفى صبري في كتابه “قولي في المرأة”، ومحمد إبراهيم القاياتي في كتابه “السنة والكتاب في حكم التربية والحجاب”، لكن أفكاره رغم ذلك لاقت صدى كبير بمجتمع كان متعطشا في جزء منه لأن يفارق ما ألفه وحجزه عن روح عصره.

صورة المقال بريشة الفنان سعد الدين شحاته

الفيديو

نص: بلال مؤمن

تحريك: عبد الله محمد

محمد السيد الطناوي

كاتب و باحث مصري Mohamed.altanawy1@Gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock