لا أعلم إن كانت رؤيتي لنماذج مثل: محمد رمضان وأوكا وأورتيجا وولاد سليم اللبانين وأحمد شيبة والسادات العالمي وعبد الباسط حمودة، باعتبارهم ممثلين لثورة تختمر أحداثها منذ زمن طويل؛ يحمل قدرا من المجازفة أم لا، لكن المؤكد أنهم جميعا ممثلون لفئة لم يُسمح لها من قبل أن تتجاوز الهامش.
جميعهم انتمي للطبقة الدنيا، ولم يلتزموا المعايير المرعية ليصبح الواحد منهم نجما ملء السمع والبصر كما هو اليوم، ففي السابق كانت شهرة المطرب الشعبي مثل أوكا وأورتيجا أو ولاد سليم اللبانين أو أحمد شيبة لا تتعدى محيط الطبقات الشعبية، وكان ممثلا مثل محمد رمضان لا تتخطى الأدوار المسندة إليه الثانوية منها.
كان للفنان النجم مواصفات معينة رسم ملامحها المزاج العام الذي تحكمت فيه بدرجة كبيرة الطبقة الوسطى، إذن ما الذي أحدث هذا الانقلاب أو لنقل الثورة؟ للتفسير يمكن أن نستعير مفهوم “الإنسان الهامشي” الذي أدخله العالم روبار بارك من بوابة الاقتصاد إلى علم الاجتماع سنة 1928. بحسب المفهوم فإن “الإنسان الهامشي” هو ذلك الفرد الذي يعيش على هامش المجتمع بعد أن جرى إزاحته وإبعاده حتى لا يكون له أثرا سلبيا على قيم المجتمع وثقافته.
عبد الباسط حمودة، رمضان البرنس، مجدي طلعت، محمود الحسيني
فوق تلك القاعدة يمكن أن نستعرض الإنتاج الفني والسينمائي والتلفزيوني على مدار عقود طويلة لنرصد استعلاءً وإقصاءً وازدراءً لثقافة الطبقات الشعبية ولغتها وموسيقاها وأغانيها، فإذا عدنا بالذاكرة إلى ما قبل انتشار الفضائيات سنجد أنه لم يكن يتاح على سبيل المثال لنجوم هذه الطبقة من مطربين ومغنيين الظهور ضيوفا على برامج التلفزيون أو أن تحتل أغانيهم مساحة من الخارطة الغنائية به، فقط من التزموا المعايير الموضوعة من قبل الطبقة الوسطى (من حيث الشكل والمظهر ولغة الخطاب) أو انتموا إليها، مفضلين اللون الغنائي الشعبي مثل حكيم ومصطفى كامل وجواهر وحسن الأسمر وبهاء سلطان وخالد عجاج وحلمي عبد الباقي، أو فنانين من فترة زمنية أسبق مثل محمد رشدي وأحمد عدوية ومحمد العزبي …، بينما أمثال حمدي باتشان وضياء ورمضان البرنس وشفيقة ومحمود الحسيني ومجدي طلعت وحتى عبد الباسط حمودة لم يكن الجمهور ليتعرف على وجوههم، ولم تكن لتصادف أغانيهم إلا عبر الأفراح الشعبية و”الميكروباصات”.
كانوا مجهولين بدرجة كبيرة إلى القطاع الأكبر من المجتمع أوحتى لمحبيهم مع أن أغانيهم كانت ألصق بالطبقات الشعبية (وكأن الغناء الشعبي المعتمد يتوجه في الأساس إلى الطبقة الوسطى لا إلى طبقته الأصيلة)، وبهذا حرم المنتمون والممثلون الأصلاء للطبقات الشعبية من أن تكون لهم أي فاعلية فنية أو ثقافية أو اجتماعية.
وتطلب الأمر أن يتقدم بطلان من أبطال هذه الطبقة، هما الأخوان السبكي عبر شركة إنتاجهم الفني والسينمائي لتكون البوابة الملكية لنجومية أسماء مثل سعد الصغير وعماد بعرور وريكو مرورا بأمينة وبوسي وصولا إلى محمد رمضان ومحمود الليثي وغيرهم.
إلى جانب ذلك فإن الموسيقى الشعبية الأبرز اليوم، موسيقى المهرجانات، ظهرت وانتشرت بعيدا عن أي رعاية لشركات الإنتاج (ممثل الطبقة الوسطى) ليجبرها نجاح هذا اللون الموسيقي بعد ذلك على احتوائه ودمجه داخل منظومته.
كانت الطبقات الشعبية “الهامش” قبل حدوث تلك الطفرة منجرة انجرارا إلى الطبقة الوسطى “المركز” حتى حانت اللحظة التي تحرك فيها الهامش (أو ممثليه) مقاوما ضغط المركز، رافضا أي استمرار للاقصاء والتجاهل والتهميش، محاولا إعادة هندسة العلاقة مع المركز، لتمنح تلك المقاومة الهامش الحيوية اللازمة لأن يقوم بثورته.
تمثلت هذه الثورة في ذروتها وعنفوانها في بطل آخر من أبطال الطبقات الشعبية هو محمد رمضان، الذي أعلن في ظهوره الباذخ والعنيف بل الانتقامي (لعقود طويلة من الاقصاء والإبعاد) أن الهامش أضحى هو المركز، إعلان كان بمثابة فضيحة للمركز ولمعاييره، كاشفا عن الخلل الذي اعتور منظومته.
“اللحظة الرمضانية” عكست كل العناصر الحاكمة للتجاذب بين الهامش والمركز: الدونية وعقدة التفوق والتمييز والاقصاء والصدارة والتبعية، وحتى لا يتصور القارئ أنني أضع الهامش في علاقة ضدية مع المركز، أوضح أن الهامش لا يقابل المركز ولا يناقضه، إنما فقط يخالفه ويتمايز عنه، والدليل على ذلك أن نجوم الهامش صاروا هم نجوم المركز أيضا بعد أن فرضوا أنفسهم عليه فرضا.
النقطة الأخيرة التي يمكن أن أضيفها لهذا التصور هو أن الهامش بطبيعته فضاء صيرورة، أي فضاء حركة وتحول، في حين أن المركز أو الأغلبية لا تصير (بتعبير جيل دولوز)، لأنها لا تطمح إلى تكوين نموذج، فهي النموذج بالفعل، بينما الهامش يصبو إلى أن يكون النموذج، وفي هذا تصدع للمركز بل للمركزية وقضاء عليها، ما يعني أن الاعتقاد في عارضية ظاهرة احتلال نجوم الطبقات الشعبية الصدارة ربما خالفه الصواب، ليتأبد تعدد المراكز.
هذه الرؤية تحمل كما ذكرت قدرا من المجازفة، لأن جدلية الهامش المركز هي مجرد أداة منهجية لم تختبر علميا، ولا تزال في إطار البحث من أجل إثبات صدقيتها، وما برحت تقع في مساحة ما بين المعرفي والوجودي، لذا لم أتخط بها حد تحليل الظاهرة المتمثلة في صعود هذا العدد الكبير من نجوم الطبقات الشعبية ليصبحوا “نمبر وان”.