لم يسع يوما إلى منصب أو شهرة، ولم يتاجر بنضاله وسجنه أو قلمه، ظل حتى رحيله مهموما ومدافعا عن أفكار ومبادئ عاش من أجلها، منحازا لقضايا الفقراء والمهمشين و”الغلابة”، وتحول عموده الصحفي في جريدة الأهالي “لليسار در” إلى إحدى منصات الدفاع عن الوطن وناسه.
عاش الأستاذ حسين عبد الرازق، الصحفي والسياسي البارز الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، كما يحب، عافر.. خسر.. وكسب، ظل صامدا مقاوما راضيا حتى في أصعب اللحظات، لم تفارق وجهه ابتسامة كان يستقبل به خصومه قبل رفاقه.
شارك عبد الرازق (1936- 2018) في كل معارك الوطن والمهنة والنقابة منذ ستينيات القرن الماضي، رفض الاستبداد بكل صنوفه ودفع من حريته سنوات خلف القضبان بنفس راضية، قاوم التطبيع مع العدو الصهيوني، رفض هيمنة السلطة على الصحافة وقاتل من أجل استقلال صاحبة الجلالة حتى قبل وفاته بشهور.
عمل عبد الرازق بعد تخرجه من كلية التجارة في جريدة “الاشتراكي” لسان حال الاتحاد الاشتراكي، وانتقل بعدها للعمل في جريدة الجمهورية ضمن مركز الأبحاث والترجمة الذي تولى رئاسته مطلع السبعينيات وعمل معه خلال تلك الفترة الراحل عبد العال الباقوري، كتب الكثير من التحليلات والدراسات والتحقيقات الصحفية في القضايا العربية والإفريقية.
قوائم الفصل
في مطلع السبعينيات صدر قرار من لجنة النظام بالاتحاد الاشتراكي بفصل عدد كبير من الكتاب والصحفيين على خلفية توقيعهم على بيان ينتقد “التلكؤ” في إعلان قرار الحرب على العدو الصهيوني الذي كان يحتل سيناء، ما أدى إلى فصلهم من مؤسساتهم الصحفية تطبيقا لقانون نقابة الصحفيين الذي ينص على ضرورة أن يكون الصحفي عضوا في الاتحاد الاشتراكي. ضمت قوائم الفصل حسين عبد الرازق وكتاب وصحفيين كبار، منهم فيليب جلاب ومحمد عودة وصلاح عيسى ومحمد العزبي ولطفي الخولي ويوسف إدريس ومكرم محمد أحمد وأمينة شفيق.
في يناير عام 1972 دعت اللجنة الوطنية العليا للطلاب إلى اعتصام في جامعة القاهرة، احتجاجا على التأخر في قرار الحرب، كان عبد الرازق مدعوا للحديث أمام المعتصمين، فاقتحمت قوات الأمن حرم الجامعة واعتقلت مئات الطلاب وعشرات الأساتذة وألقي القبض على حسين عبد الرزاق، وتم ترحيله إلى سجن الاستئناف في باب الخلق.
انتقل عبد الرازق إلى جريدة الأخبار صحفيا وكاتبا متخصصاً في متابعة ثورات وحركات التحرر الوطني ضد الاستعمار والصهيونية في فلسطين وفيتنام والجزائر واليمن وكوبا ومختلف بلدان أفريقيا وآسياً وأمريكا اللاتينية.
انتخب عضوا بمجلس نقابة الصحفيين لأكثر من دورة، ودخل مع أعضاء المجلس معارك ضد نظام السادات الذي شهد عصره فصل ونقل عشرات الصحفيين إلى أعمال أخرى، وشارك نقيب الصحفيين الراحل كامل زهيري في الدفاع عن الكيان النقابي ضد محاولات السادات تحويل النقابة إلى نادٍ اجتماعي.
في منتصف السبعينيات سمح السادات بتأسيس ثلاثة منابر سياسية داخل الاتحاد الاشتراكي (اليسار والوسط واليمين)، وشارك عبد الرازق في تأسيس منبر اليسار الذي تحول فيما بعد إلى حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، وكان أول أمين للقاهرة في الحزب وعضواً بالأمانة العامة، ثم تولى لفترة طويلة أمانة العمل الجماهيري بالحزب.
انتفاضة الخبز
ساهم عبد الرازق بدور كبير في انتفاضة الخبز (18-19 يناير 1977) التي أطلق عليها السادات “انتفاضة الحرامية”، واعتقل مع المئات من القيادات العمالية والطلابية والنقابية والسياسية. عن قصة اعتقاله يقول عبد الرازق في حوار صحفي نشر قبل سنوات: كنت أشغل منصب أمين العمل الجماهيري بالتجمع، واقترحت كتابة برقية لوحدات الحزب بالمحافظات، وعندها بادرت بتوصيل الرسائل عبر جهاز التلكس للأعضاء لمتابعة الموقف، على أن يكونوا حريصين على حماية المنشآت، وكان رفعت السعيد هو المفوض من قِبَل الحزب بالتوقيع على البرقيات. ويضيف: مع تصاعد وتيرة الأحداث تم القبض على السعيد بتهمة التحريض، وكنت سبباً غير مباشر في اعتقاله، رغم أنى كنت صاحب الفكرة وكاتب نص الرسالة، لكنني لحقت به في الدخول إلى السجن بتهمة التحريض والتلويح للمتظاهرين بحرق الممتلكات العامة، والغريب في الأمر أن التهمة كانت التحريض في ثلاثة أماكن في وقت واحد، رمسيس وميدان التحرير وأمام تمثال سعد زغلول، وكانت تلك التهم موزعة على عدد من السياسيين المشاركين في المظاهرات.
كتابه عن الانتفاضة “مصر في 18 و19 يناير.. دراسة سياسية ووثائقية” أهم ما كتب عن هذه الأحداث لما تضمنه من وثائق ووقائع ومحاضر التحقيقات وجلسات المحاكمة والوثيقة التاريخية لحكم البراءة الذي أصدره القضاء المصري بحق المتهمين في القضية.
قضية التفاحة
في عام 1980، أحيل عبد الرازق مع زوجته الكاتبة الكبيرة فريدة النقاش، وعدد من الرفاق بينهم محمد عبد السلام الزيات ولطفية الزيات ومحمد عودة إلى النيابة العامة بتهمة التخابر لصالح الاتحاد السوفيتي، قدمت أجهزة الأمن للنيابة تلالا من الوثائق والتسجيلات في محاولة لإثبات التهمة على مجموعة “التفاحة” كما كان يشار إليهم حينها، إلا أن النيابة العامة لم تجد في تلك التسجيلات ما يدل على حدوث جريمة فحفظت القضية وأفرجت عن المتهمين.
الكاتبة فريدة النقاش
تولى حسين عبد الرازق رئاسة تحرير جريدة “الأهالي” لسان حال حزب التجمع اليساري في فترتها الذهبية من عام 1982 حتى 1987، وخاضت الجريدة في عهده معارك صحفية متواصلة ضد الفساد والاستبداد والاستغلال والاحتكار، ودافعت عن مصالح العمال والفلاحين وحقهم في حياة إنسانية كريمة، وتبنت قضايا الحريات السياسية والنقابية والثقافة الوطنية، وكان عموده الثابت في “الأهالي” الذي استمر يكتبه حتى وفاته بعنوان “لليسار در” نموذجا للمواقف المبدئية والاستقامة الفكرية والسياسية.
في عام 1987 أسس مجلة اليسار ورأس تحريرها لتكون لسان حال الماركسيين داخل التجمع وخارجه، وخرجت المجلة جيلا من الكتاب والصحفيين والباحثين، وخاضت معارك للدفاع عن الحريات العامة والديمقراطية وحقوق المهمشين.
مقاومة التطبيع
لعب عبد الرازق دوراً بارزاً في تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية، التي قاومت التطبيع وحشدت الجماهير ضده بعد اتفاقية كامب ديفيد، كما لعب دوراً رئيسياً في تأسيس لجنة الدفاع عن الديمقراطية مطلع الألفية الثالثة، التي ضمت الأحزاب الوطنية الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالحريات.
وظل عضواً نشطاً في اللجنة المصرية للسلام، ضمن حركة السلام العالمي، ولعب الدور الرئيسي في إعادة تنشيطها بعد وفاة مؤسسها الزعيم الراحل خالد محيي الدين، كما كان أحد مؤسسي اللقاء اليساري العربي والذي ينعقد منذ عام 2011 ممثلا لحزب التجمع، وتم اختياره ممثلًا لليسار في لجنة الخمسين لإعداد دستور 2014.
ظل حسين عبد الرازق حتى اللحظات الأخيرة مشاركاً في كل الفعاليات النقابية ومعارك استقلال الصحافة، وكان موقفه من قانون 93 لعام 1995 مشهودا مع أعضاء مجلس نقابة الصحفيين والجمعية العمومية في معركة شرسة لإسقاط هذا القانون. وقبل وفاته بأسابيع قليلة خاض معركة أخرى ضد قوانين الصحافة والإعلام التي تم تمريرها من مجلس النواب مؤخرا، وكان من أول الموقعين على بيان رفض مشروعات القوانين، وكتب سلسلة مقالات يفند فيها عدم دستورية بعض مواد القانون.
وكما عاش عبد الرزاق حياته على يسار السلطة معارضا مناضلا، ظل حتى وفاته مشجعا لفريق الزمالك، صابرا على نتائجه.
تصميم صورة المقالة: عبد الله محمد