“البروباجندا الإعلامية” صناعة يتقنها البعض، لاسيما في أوقات الأزمات والأحداث الوطنية الكبرى، لإثارة الحماسة وإزكاء روح الثورة والوطنية في نفوس الجماهير، غير أنه شتان بين من يمارس تلك المهمة مٌداهنة للسلطة وذرا للرماد في أعين المعارضة السياسية وخداع الرأي العام، ومن يمارسها حفاظا على اللحمة الوطنية وإزكاء لروح المقاومة وانحيازا لإرادة الشعب وأحلام المواطنين.
في ذكرى الثورة العرابية يبدو عبدالله النديم الخطيب المفوه للثورة تعبيرا صادقا عن النوع الأخير بما تمتع به من لغة أدبية بليغه وسطوع للكلمة وحس ثوري لا يعرف المداهنة ولا الموازنات.
كان النديم ربيب مجلس جمال الدين الأفغاني بمقهى متاتيا الشهير بميدان العتبة، الذي كان أشبه ما يكون بصالون ثقافي يجمع نخبة الحالمين بخلاص الوطن من المحتل والاستبداد، ومنهم حامل لواء التجديد الديني الإمام محمد عبده، ورائد صحافة المعارضة الساخرة يعقوب صنوع، والمفارقة أن هذا المجلس ضم بين أعضائه الشاب توفيق ابن الخديوي اسماعيل، والذي خلفه في الحكم لاحقا.
جمال الدين الافغاني، محمد عبده
ما تمتع به عبدالله النديم من ملكات خاصة في الكتابة الساخرة ساعده في إصدار جريدته “التنكيت والتبكيت” التي قدمت نقدا لاذعا للسلطة الحاكمة ممثلة في الخديوي إسماعيل، وهو ما لم تحتمله السلطات التي سارعت لإيقاف الجريدة قبل إصدار عددها التاسع عشر، كما سارعت إلى استصدار قانون المطبوعات الأول في عام 1881، في أعنف إجراء ينال من حرية الصحافة المصرية الوليدة.
وعلى الرغم من أن التنكيت والتبكيت لم تكن طويلة العمر، إلا أنها كانت إيذانا بقدرات هذا الصحفي الشاب الذي بدا كشعلة حماس لا تنطفأ، وسيل ثوري لا يتوقف، وعندما وقعت لحظة الصدام الثوري بين أحمد عرابي والخديوي توفيق، وأعقبها تدخل الجيش البريطاني، اتجهت الأنظار إلى عبدالله النديم بحماسته المتقدة ووطنيته الأخاذة فأصدر صحيفة الطائف، لتكون بمثابة لسان حال ثورة عرابي والمصريين ضد القصر والمحتل، وليكون النديم أول مراسل حربي في تاريخ الصحافة المصرية.
في أحد رسائله المتقدة حماسا إلى الصحيفة كتب النديم: “خذوا حديثا يرويه العيان عن المشاهدة، ويخبر به الصدق عن الحقيقة، جهل الانجليز مقام المصريين وأجلبوا عليهم بالخيل والرجل، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره توفيق باشا ومن معه”.
كانت رسائل النديم اليومية من أرض المعركة تعكس صدق مشاعره وتحمسه رغم ما قد تحمله من مبالغات رآها من موجبات رفع الروح المعنوية للمصريين. كتب على سبيل المثال في وصف المعركة بين عرابي والإنجليز:
“وعندما تكاثرت نيراننا عليهم تقهقروا، فانقض عليهم أربعمائة من سوارينا، وخمسمائة خيال من فرسان العرب، وخمسمائة من العرب الراجلة، انقضاض الشهب المحرقة، وساقوهم سوق الأغنام، ومدافعهم تضرب من كل جانب، وهؤلاء الأسود لا تخيفهم نيران العدو”.
كان النديم بمشاعر الوطنية المتأججة لديه يعبر عن أحلامه في انتصار جيش بلاده على القوة الغاشمة، وكانت الجماهير تنتظر مقالاته الحماسية في فرحة واستبشار، لكن تلك الجماهير نفسها أفاقت لاحقا على حقيقة هزيمة عرابي وجيشه هزيمة نكراء في معركة التل الكبير.
عكست خطابات النديم حالة الحماسة والاندفاع الشعبي الحالم بانتصار يحمل له الخلاص من سلطة غشوم ومحتل طامع، وفي المقابل كانت جريدة “الأهرام” الأقرب لسلطات الحكم تزف للمصريين بشرى احتلال الانكليز للقاهرة و”القبض على العاصي عرابي”.
وربما يكون من غير المنصف أن نحاسب النديم بمعايير زمننا على رسائله الحماسية من أرض المعركة،باعتبارها افتقدت الدقة الواجبة في تحري الحقيقة والتوثق من الأخبار، ولم تأخذ في الاعتبار الخلل البين في موازين القوى بين الطرفين المتحاربين، كما لم تنتبه إلى الخيانات والدسائس التي نجحت في النهاية في الإيقاع بعرابي وجيشه، وحسم المعركة لصالح القصر والإنجليز، فالرجل لم يكن صحفيا محترفا بقدر ما كان أديبا متقد الحماسة ووطنيا مخلصا لقضايا وطنه، ودفع في النهاية كلفة انحيازه للوطن بقضاء تسع سنوات من عمره متنقلا بين قرى مصر ونجوعها مطاردا من المحتلين، لكن الأهم هو الدرس المستفاد بأن الحقيقة هي الباقية دائما على عكس أي روايات تجافيها ولا تصمد طويلا أمام حقائق التاريخ التي لا ترحم من يتجاهل الواقع وحساباته أو يقع أسيرا للتمني.
صورة المقالة بريشة الفنان سعد الدين شحاته
احسنت بالتوفيق استاذ بلال مؤمن