تذهب الأمم إلى الهاوية عندما تقوم بتثبيت لحظتها الراهنة، قد تكون اللحظة لحظة انتصار باهر ولكن تثبيتها سيجعل المنتصر يغتر، وليس ثمة كارثة أكبر من الغرور، قد تكون اللحظة لحظة هزيمة، وتثبيتها سيقود إلى اليأس والقنوط، وهذان متى ضربا أهلكا.
تقول لحظتنا الراهنة إن دولة الصين تغرق الوطن العربي كله من محيطه إلى خليجه في طوفان من منجزاتها، بداية من لعب الأطفال ونهاية بالأسلحة المعقدة. صادرات الصين للعرب تجاوزت المائة مليار دولار في العام الماضي، وكلها صادرات تقوم على الصناعة، بينما تقتصر صادرات العرب إلى الصين على النفط الخام.
هذه هى لحظتنا بدون الوقوع في فخاخ التهويل أو التهوين، نستطيع النجاة منها إذا استحضرنا الماضي لننطلق إلى المستقبل. عن ماضي علاقة الأمة العربية بالصين، كتب مؤرخنا الكبير الدكتور قاسم عبده قاسم فصلًا عظيما من فصول كتابه “أوراق تاريخية” تحت عنوان “العلاقات الصينية/ العربية الباكرة” رسم فيه ملامح العلاقات الصينية العربية مذ بدأت.
لم تكن الصين تعرف شيئًا عن العرب، أو بالأصح كانت تعرف أقل القليل، ثم جاء الإسلام وبدأت الفتوحات الإسلامية تطرق أبواب الدول. هنا تنبه الصينيون للعرب، خاصة بعد تولى الخليفة عمر بن الخطاب الحكم وفتحه لبلاد فارس، لأن الفرس أرسلوا للصينيين طالبين مساعدتهم في صد الهجمات العربية.
بعد زمن عمر تطلع المسلمون لفتح الصين، وتوالت المحاولات، حتى أن رجل الأمويين الشهير الحجاج بن يوسف الثقفي قال إنه سيجعل حكم الصين في يد أي قائد يفتحها.
ثم جاء زمن حكم العباسيين وفيه توغل المسلمون في أسيا حتى سيطروا على معظمها، وقد أغضب الوجود الإسلامي الصينيين الذين وقفوا مندهشين من الجيوش الإسلامية التي لم تكن تهزم.
ثم حدث صراع بين حاكم فرغانة وهى من مدن أوزبكستان حاليًا وبين حاكم مدينة الشاش وهى أيضًا من مدن أوزبكستان، فاستنجد أمير فرغانة بإمبراطور الصين الذي أمده بجيش بقيادة قاو شيان تشي، فقاد هذا الأخير جيشه حتى حاصر إمارة الشاش، وأسر أميرها وقتله؛ فالتجأ حينها ابنه إلى دولة الخلافة العباسية، فلما بلغ الخبر أبا مسلم الخرساني؛ وجه إلى حرب الصين زياد بن صالح الحارثي.
وفي شهر ذي الحجة من عام 133 هـ الموافق لشهر يوليو من عام 751 م تواجه الجيشان الإسلامي والصيني وكانت المعركة على نهر طلاس ولذا عرفت باسمه، وتواصلت لأربعة أيام وانتهت بنصر ساحق للمسلمين. وكان من نتائج تلك المعركة رسوخ الوجود الإسلامي في أسيا وتقليص النفوذ الصيني، إضافة إلى دخول مقاطعات صينية في الإسلام، ولا نغفل عن استفادة المسلمين من تطور الحرف والصناعات الصينية التي نقلها المسلمون إلى بلادهم.
رغم ما سبق فإن هذه المعركة عجيبة جدًا، وعلى أهميتها إلا أنها لم تفز من المؤرخين المسلمين سوى بسطور قليلة، وقد أرهق مؤرخنا الدكتور قاسم عبده قاسم نفسه في تتبع أخبارها الواردة في المصادر الصينية. وكان من أثمن ما وقع عليه مؤرخنا الدكتور قاسم مذكرات كتبها جندي صيني أسره المسلمون في معركة طلاس.
قاسم عبده قاسم
في ذاك الزمان كان المسلمون يمتحنون الأسرى فمن كان لديه علم ينقصهم أخذوه إلى بلادهم، حتى إن تعلموا علمه أطلقوا سراحه. الأسير الصيني يدعى “تو هوان” وكان من المحترفين في صناعة الورق. وقبل أن أنقل شهادته كما جاءت في كتاب الدكتور قاسم أشير إلى دراسة رائعة كتبها بدر المهداوي عن دور المسلمين في تطوير صناعة الورق، جاء فيها أن الصينيين عرفوا صناعة الورق في عام 105، وازدهرت تلك الصناعة في عهد هارون الرشيد، حيث تأسس أول مصنع للورق في بغداد حوالي سنة 178 هـ/794 م. بعدها عرفت أوروبا الغربية الورق عن طريق صقلية والأندلس، وكان أول استعمال أوروبي له هناك يعود إلى ملك صقلية روجر في عام 1102 م، واستخدم الورق أول مرة في إيطاليا سنة 1154 م، وفي ألمانيا سنة 1228 م، وفي إنجلترا سنة 1309 م.
يقول المؤرخ الدانماركي يوهانز بيدرسن في “الكتاب العربي”: صحيح أن الورق اخترع في الصين وليس في بلاد الإسلام، ولكن المسلمين استخدموا مواد جديدة سهلت تصنيعه على نطاق واسع، وابتكروا في ذالك أساليب حديثة أيضا، وبفعل ذلك؛ حقق المسلمون مأثرة ذات مغزى حاسم وأهمية كبرى، ليس لتاريخ الكتب الإسلامية فحسب، بل لعالم الكتب كله.
يقول الأسير الصيني تو هوان في مذكراته الواردة في كتاب “تشينج ـ هسينج تشي”: الملك العربى اسمه مومين (أمير المؤمنين)، ويتحلى جميع الرجال والنساء بحسن الطلعة وطول القامة، كما أن ملابسهم لامعة نظيفة، وسلوكهم مهذب، وعندما تخرج المرأة إلى العلن عليها أن تغطى وجهها مهما كانت مكانتها الاجتماعية سواء كانت تنتمى إلى الطبقة الراقية أو كانت من بنات الطبقات المتواضعة.
ويضيف: هم يقيمون الصلاة خمس مرات يومياً، ويأكلون اللحم، ويصومون، ويعتبرون ذبح الحيوانات أمراً صحيحاً، ويلبس الرجال حول أوساطهم أحزمة يعلقون بها خناجر من الفضة، وهم يحرمون شرب الخمر، وعندما يتشاجر الناس فيما بينهم لايضربون بعضهم بعضاً.
وهناك قاعة احتفالات (يقصد المسجد الجامع) تتسع لعشرات الآلاف من الناس، وكل سبعة أيام يخرج الملك للصلاة (صلاة الجمعة)، ويرتقى منبراً عالياً ليلقى على مسامع الجمع الحاشد خطبة يتناول فيها ما يتصل بالشريعة، يقول فيها: «إن الحياة الإنسانية صعبة للغاية، وطريق الاستقامة ليس سهلاً، والزنا خطيئة، وليس هناك ذنب أكبر من السرقة، أو النهب، أو غش الناس، حتى وإن كان فى أتفه صورة، ولاذنب أفدح من أن يضمن المرء لنفسه الأمان بأن يجلب على غيره المخاطر، وليس بعد خداع الفقير وقهر المسكين ذنب، وكل الذين قتلوا فى المعارك دفاعا عن الإسلام سوف يدخلون الجنة».
ويواصل تو هوان شهادته: “أما دفن الموتى فيتم بأسلوب بسيط دونما إسراف وسواء كان الناس يعيشون داخل أسوار مدينة كبيرة، أو فى رحاب قرية، فإنهم لا يحتاجون إلى شيء مما تنتجه الأرض، إذ إن بلادهم محور العالم، حيث البضائع وافرة ورخيصة، وحيث أقمشة القصب المطرزة الفاخرة، واللآلئ والنقود تملأ الحوانيت، على حين تمتلئ الشوارع والأزقة بالجمال والخيول والحمير والبغال، وهم يقطعون الأقصاب لبناء الأكواخ التى تشبه الأكواخ الصينية، وعندما يحتفلون بأحد الأعياد يجلب الأعيان عددًا لا يحصى من أوانى الزجاج والأوانى النحاسية.
ولا يختلف الأرز الأبيض والدقيق الأبيض هنا عنهما فى الصين، ومن بين الفواكه عندهم الخوخ، والتمور التى هي من زرع النخيل الذى يحملها منذ ألف سنة، واللفت عندهم كبير الحجم، مستدير وطعمه شهى جدا، لكن الخضراوات الأخرى لديهم تشبه الخضراوات فى البلاد الأخرى، وحبات العنب عندهم كبيرة فى حجم بيض الدجاج، وأكثر الزيوت قيمة بالنسبة لهم نوعان، أحدهما اسمه الياسمين، والثاني يسمى المرّ”.. وهنا انتهى الاقتباس من شهادة هوان.
وبعد، فهكذا كنا، ومن تلك النقطة الذهبية يجب أن ننطلق، لقد عاش الأسير لدينا مكرمًا، تعلمنا علمه، ثم عاد إلى بلاده ليخلد ذكرى تلك الأيام بشهادته المتفردة.