أخيرًا ظهرت ” ذكريات” حسن حنفي، وقد كتبها بروح المفارق الذي يسابق ساعات العمر في سبيل إصدار أعماله الأخيرة من مشروعه الفكري الذي استغرق ستين عاما من عمره لم يعرف فيها كللا ولا مللا. في حديث خاص لصاحب هذه السطور، صرح حنفي أن ذكرياته كانت بمثابة استراحة محارب بينما يخط أوراقه الأخيرة من مؤلفاته: “الهيجليون الشبان” و”التفسير الموضوعي للقرآن الكريم” و”الثورة المصرية في أعوامها الثلاثة الأخيرة”، بعدما أصدر الثورة المصرية في أعوامها الثلاثة الأول .
حياته الشخصية كانت مثار أسئلة وتكهنات عدة، وكان هو حريصا على إخفاء ملامحها حتى عن أقرب الناس إليه. فإذا به يلقي بها جملة بلا حيطة أو حذر، قصص حب وغرام، مغامرات نسائية في سنوات الجامعة وأثناء رحلة دراسته العلمية في باريس، صدامات ومؤامرات في الأوساط الأكاديمية، وكأنما أراد أن يلقي عن نفسه رداء مثالية بدت لا تفارقه لسنوات طوال.
قبل أن نستعرض أبرز ما جاء في “ذكريات” حنفي نقرر أن عملية كتابة أدب السيرة الذاتية أو الاعترافات، شاقة جدًا ولا يستطيعها سوى قلة، إنها بجملة واحدة تشبه السير حافيًا على صراط من الجمر المتقد.
يهدي حنفي مذكراته إلى مصر، ويصدرها بأبيات مختارة من قصيدة “قصة حبي” التي غنتها سيدة الغناء أم كلثوم من أشعار أحمد رامي وألحان السنباطي. ذكريات حسن حنفي، كما يقرر هو في مقدمته، ليست سيرة ذاتية، فالسيرة ذاتية اختيار واع يبنى على سجل حاضر وموثق بتاريخ الحياة، وهو ما لم يفعله، كما اختار ألا ينسبها لذاته فيقول (ذكرياتي) حتى لا يضفي عليها طابع الذاتية، في حين أرادها موضوعية، أرادها قراءة لتاريخ الوطن وتحولاته، آماله وانتكاساته، فالعصر يتكلم من خلاله ليرصد هموم الفكر والوطن من زاوية الكاتب، كما اختار أن تأتي في عنوان الكتاب في صيغة النكرة لا المعرفة، لأنه يقدم فقط ما نجح في استعادته من سجل حافل بالأحداث والذكريات، لا كل الذكريات.
وعلى الرغم من إغراقه في الذاتية سردا ونقدا، إلا أنه ينفي عن تلك الذكريات الذاتية ويؤكد على منحاها الموضوعي، وهو ما يجعلها عرض للنقد والنقض لاسيما أنه سيتعرض فيها للعديد من الشخصيات التي مرت عليه في رحلته العلمية بنقد يصل لحد التجريح ، وإن جاء نقده تلميحا لا تصريحا. ولو أحسن صاحب الذكريات لادعى لمذكراته الذاتية، فهي حديث من النفس وإليها، فضفضة غير مسؤلة.
شتان ما بين ما قدمه حنفي في ذكرياته وبين ما خلفه لنا زكي نجيب محمود في ثلاثيته (قصة نفس، قصة عقل، حصاد السنين) أو ما قدمه بدوي في (سيرة حياتي).
هي ذكريات أكثر من ثمانين عام، ذكريات عصر بأكمله، سبعة عشر عاما قبل ثورة 1952، وما تلاها من تقلباتها من الناصرية (1956-1970)، والانقلاب على الناصرية (1970 -1981)، وحتى الثورة الشعبية 2011، ثم قراءة لثماني سنوات مرت على الثورة.
تبدأ الحكاية من ذكريات الطفولة الأكثر حضورا، من حي باب الشعرية يروي تفاصيل النشأة والأخوة والوالد الذي كان يعمل موسيقيا بالجيش بفرقة البيادة المصرية، إلى بيت الجد في بني سويف، ثم ينتقل إلى ميوله لفنون كالرسم والموسيقى، كان عليه أن يختار بينها وبين الفلسفة فاختار الأخيرة، ويحكي قصص تعرفه للمرة الأولى على الجنس الآخر التي تمثلت في صالحة ابنة الجيران، ثم الفتاة ابنة بائع الكبدة قبل أن ينتقل إلى المرحلة الجامعية ليروي قصة حبه الطويل لفتاة مسيحية فلسطينية ستدرس الحقوق في الجامعة ثم ترحل عائدة إلى وطنها، في الوقت الذي كان يستعد هو فيه لرحلة دراسته الفلسفية بجامعة السوربون.
في الجامعة يروي حنفي قصة انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين، حيث جمعته شعبة واحدة مع مهدي عاكف الذي سيصير مرشدا للجماعة فيما بعد، ويتناول ذكرى عدد من الأساتذة الذين أثروا فيه سلبا أو ايجاب، ومنهم زكريا ابراهيم، زكي نجيب محمود، مصطفى سويف، أحمد فؤاد الأهواني، ورائد الجوانية عثمان أمين.
ثم يعرض لقصة سفره إلى باريس، التي تزامنت مع أجواء العدوان الثلاثي على مصر، ويقص علاقته العلمية بعدد من كبار الفلاسفة والمستشرقين الغربيين، على رأسهم لويس ماسينيون وهنري كوربان وبول ريكير وجان جيتون، ولا يفوته أن يروي قصته الأثيرة في لقاء عبدالحكيم عامر حين وصل إلى باريس ليمهد للقاء عبدالناصر بالمبتعثين المصريين هناك، فوقف له حنفي في قوة وعنفوان يطالبه بتعديل سياسات الدولة التي كانت تحرم طلاب البعثات من مصروفاتهم، وتلغي جوازات سفرهم بحجة معارضتهم للنظام، وعندما عاد حكيم ليحكي لعبدالناصر ما حدث بباريس في لقاء الطلبة، قرر عبدالناصر عقد لقاء سنوي مع ممثلي المبتعثين، وهكذا عهد إلى منهم بمهمة الترتيب لهذه اللقاءات التي عقدت تحت اسم “مؤتمر المبعوثين” ضمت حسن حنفي مع صديقه عالم الرياضيات رشدي راشد والدكتور حسام عيسى والسيد يس ومحمد عمران.
ينتقل حنفي بعدها إلى ملابسات انضمامه للعمل الأكاديمي بكلية الآداب جامعة القاهرة، التي تزامنت مع أحداث النكسة 1967 والأجواء الثورية الاحتجاجية داخل الجامعة للمطالبة بالتحقيق في أسباب الهزيمة. ويرصد حنفي هنا كيف تحول من التنظير الفلسفي إلى النضال الوطني وفلسفة المقاومة، حين كان يساهم سرا في ولوج الشيخ إمام إلى مدرجات الجامعة ليعبر بألحانه وأغانية الثورية عما يعتمل في نفوس طلاب الجامعة من ثورة وغضب مكتوم.
كذلك يتطرق حنفي إلى الحديث عن دوره في إشهار الجمعية الفلسفية المصرية، أو ما يسميه بالإحياء الثاني منذ تأسيس منصور فهمي باشا للجمعية عام 1944، وفي الجزء التالي من مذكراته ينتقل حنفي إلى ذكرياته الشخصية في بلاد المغرب العربي حين ذهب للتدريس بها، وكذلك محاضراته وزياراته المتفرقة لبلدان مثل اليمن التي قامت فيها جماعة الزنداني بتكفيره وإهدار دمه، وإيران التي حصل فيها على جائزة الشيرازي بعد ما ربطته علاقة قوية بقيادات ثورتها الإسلامية.
أما الجزء الخاص برئاسته لقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، فهو الأكثر جدلا لما أثاره حنفي في أحاديثه عن أجواء الصراعات والمشاحنات مع بعض رفاق رحلته العلمية الذين لا يصرح بأسمائهم، وإن فهمت تلميحاته لبعض الشخصيات مثل السيد يس وأنور عبدالملك وغيرهما، كذلك أجواء المشاحنة مع بعض تلاميذه الذين استشعر تمردهم عليه وعدم حفظهم مقام وفضل الأستاذية، بل ظنوها رأسا برأس كنصر حامد أبو زيد وعلي مبروك. وربما بدا حنفي هنا وكأنه يحاول إبعاد تهمة فشله في تكوين مدرسة فلسفية تستكمل مشروعه في التراث والتجديد، رغم ما يسوقه من مبررات تعزي هذا الفشل إلى النوازع النفسية ومحاولات التمرد والخروج من عباءة الأستاذ، أو النفعية والبحث عن الطموحات الشخصية لا العلمية.
وأيا ما كانت الدوافع التي يقدمها حنفي هنا لتبرير وتفسير عدم وجود مدرسة فلسفية تتبنى مشروعه وتستكمل مسيرته، فهو يقدم عرضا لذكرياته ورؤيته الشخصية التي لن تخلو بطبيعة الحال من ذاتية وتضخيم الأنا على حساب الآخر، وإن كان كعادته يترك الباب مفتوحا لتلقي الردود والانتقادات التي ربما تضمنتها طبعة ثانية من ذكرياته.