كان عمر مكرم هو الوحيد من بين النخبة المصرية، متمثلة في مشايخ الأزهر الكبار آنذاك، الذي رفض أمان نابليون والعودة إلى القاهرة بعد احتلال الفرنسيين للبلاد، وسجل له التاريخ كذلك، بقلم الجبرتي، جهاده في محاربتهم مع المماليك بموقعة الأهرام، ومن هذه الأحداث العظام بزغ نجم زعامته المطلقة للجماهير.
عمر أفندي مكرم نقيب الأشراف، ابن أسيوط المولود سنة 1750، تلقى تعليمه في الأزهر الشريف كبقية أبناء طبقته في هذا العصر، وتولى نقابة الأشراف سنة 1792، ثم برز كأحد زعماء انتفاضة 1795 ضد طغيان الحاكمين المملوكين مراد بك وابراهيم بك، لكن النقيب تفرد بالزعامة وتسيد بالفعل لا بالنسب فحسب مع دخول الفرنسيين لمصر، وتوالي أحداث الحملة.
بعد هزيمة المماليك هرب عمر مكرم إلى يافا، ليظل بها إلى أن أتاها نابليون بجيشه، فأعاده الساري عسكر إلى مصر، وأكرمه ووعده برد أملاكه المصادرة.
حِفظُ نابليون قدر مكرم لم يغر الرجل الأبي بالتعاون مع الفرنسيين كما فعل شيوخ الديوان، فاعتزل إلى أن اندلعت أحداث ثورة القاهرة الثانية، التي امتدت إلى معظم الأقاليم، وكان عمر مكرم أحد زعمائها، القائمين على شأنها.
دك الفرنسيون القاهرة في ثورتها الثانية التي استمرت قرابة شهر، وأعدموا عددا من زعمائها، لكن عمر مكرم نجا بنفسه، بهروبه خارج البلاد، ولم يعد إليها إلا مع خروج الفرنسيين منها عام ١٨٠١.
عودة الزعيم استتبعت نهوضه مجددا في وجه حاكمي الشعب وناهبي قوته القدامى: المماليك والعثمانيين، فاستمرت الثورة وتأكدت زعامة عمر مكرم لها. واجه المماليك والوالي العثماني اللذين اجتمعا على إغراق الشعب في الضرائب، واستمر هذا الحال حتى ضج الناس بالشكوى إلى عمر مكرم وشيوخ الأزهر، فيما عرف بأزمة (١٨٠٥) التي نجمت عن إقرار الوالي العثماني خورشيد باشا ضرائب باهظة على الناس، فخرجوا إلى مشايخ الأزهر، ليعلق المشايخ الدروس، وينصرفوا مع الجموع إلى خورشيد باشا يطالبونه برفع الضرائب المفروضة، فرفض طلبهم، ولم يدر بخلده أن الأحداث قد تتدافع إلى ما تدافعت إليه، فما وقع سابقة نبعت من وعي رجل صدق في نصرة أناسه، وعجمت عقله الأحداث، فأدرك أن انتزاع الحق موكل بأهله، وأن العودة إلى ما كانت عليه الأحوال قبل قدوم الفرنسيين لا طاقة على احتماله، خاصة بعدما قدم المصريون تضحيات جسام، هاب تكاليفها المماليك والعثمانيون معا.
دفع النقيب بمظالم الناس إلى المحكمة الكبرى، فأصدرت فتوى بعزل الوالي، وعند هذا الحد ارتأى المشايخ أن يتركوا مهمة إنفاذ العزل إلى من توافقوا على إحلاله محل خورشيد باشا، ألا وهو محمد علي، إلا أن عمر مكرم أصر على أن يكون عزل الوالي بأيدي أصحاب الأمر، فشجع الناس على حمل السلاح، كما فعل أول مرة في مواجهة الفرنسيين، وأن يستمروا في حصار الوالي العثماني.
إصرار المصريين على عزل خورشيد باشا وتقديم محمد علي مكانه أجبر الأستانة على إصدار فرمان بتوليته، لكن الدولة العلية تربصت بواليها الجديد، إذ أجلسته على عرش مصر مرغمةً، بعد دعم زعماء البلد له، وعلى رأسهم السيد عمر مكرم، وترصد له المماليك أيضا، ومن ورائهم الإنجليز، لرغبتهم في تولية حليفهم محمد بك الألفي، لذا كان دعم زعماء الشعب لمحمد علي مصيريا في هذه الفترة الحرجة، وكان أن أحبط هذا الدعم هجوما نفذه المماليك على القاهرة، ثم مؤامرة توافق على حبكها المماليك ومن ورائهم الإنجليز والعثمانيين، فصدر فرمان بعزل محمد علي وتولية موسى باشا، الذي حضر إلى مصر (1805) بمصاحبة أسطول حمل قوة عسكرية بلغت 3 آلاف جندي، لكن عمر مكرم ومَن معه مِن القيادات الشعبية أفشلوا المخطط، وأصروا على بقاء محمد علي، ليفرضوا كلمتهم مرة أخرى.
امتدت ولاية النقيب، في هذه المرحلة التاريخية، على مصر كلها، ليراسله أهلها في الملمات، وتزداد مكانته في نفوسهم بما نهض من أعباء هي من شأن الحاكم، فمع قدوم حملة فريزر (١٨٠٧)، واحتلالها الإسكندرية بعد تسليم حاكمها التركي لها، ثم انتقال جزء من الجيش إلى رشيد لاحتلالها، ودفاع أهلها عن المدينة حتى النصر، ورد الجيش على أعقابه إلى الإسكندرية؛ في هذه الأثناء دعا السيد عمر مكرم إلى التطوع للقتال، وكان يصاحب المتطوعين كل يوم إلى أطراف القاهرة لإقامة الاستحكامات اللازمة لتأمين العاصمة، ويذكر الجبرتي أنه “نبه على الناس وأمرهم بحمل السلاح، والتأهب لجهاد الإنجليز حتى مجاوري الأزهر، وأمرهم بترك حضور الدروس، وكذلك أمر المشايخ المدرسين بترك إلقاء الدروس”، كما جهز قوة من المتطوعين لنجدة أهل رشيد بعد تحرك جيش إنجليزي آخر لإعادة الكرة على المدينة، وبعد عودة محمد علي من حربه مع المماليك في الصعيد عاونه عمر مكرم على جمع المال اللازم لتجهيز حملة عسكرية لوقف تقدم حملة فريزر، وبينما محمد علي يستعد للزحف على الإسكندرية لإجلاء الإنجليز فاجأه فريزر بطلب الصلح، وقد كان.
بعد جلاء الحملة، واستقرار الأمور نسبيا، نزعت نفس محمد علي إلى الاستئثار بالسلطة دون العلماء، ويرى الجبرتى أن محمد على “دبر تفريق جمع الشيوخ، وخذلان السيد عمر لما فى نفسه منه من عدم إنفاذ أغراضه، ومعارضته له فى غالب الأمور، وخشيان صولته، وعلمه أن الرعية والعامة تحت أمره، إن شاء جمعهم، وإن شاء فرقهم، وهو الذى قام بنصرته وساعده وأعانه وجمع الخاصة والعامة حتى ملكه الإقليم، ورأى أنه إن شاء فعل نقيض ذلك..”.
تدبير محمد علي لم يستغرق طويلا، إذ كان الشيوخ ينفسون على النقيب مكانته بين الناس، ومكانه في السلطة بجانب الوالي، فامتثلوا لرغبة الأخير في الإطاحة بالسيد، وشارك في المؤامرة الشيوخ: الشرقاوي (شيخ الأزهر) والدواخلي والمهدي وغيرهم، لكن النقيب لم يتراجع أمام هذا التحالف، وأمعن في التحدي فأخبر الشيخين المهدي والدواخلي أنه “إذا أصر الباشا على مظالمه فإننا نكتب إلى الباب العالى، ونثير عليه الشعب، وأنزله عن كرسيه كما أجلسته عليه”.
اصفطاف المشايخ بجانب محمد علي سهل عليه عزل عمر مكرم من منصبه، ونفيه إلى مدينة دمياط، وذهب هؤلاء إلى ما هو أبعد فكتبوا عريضة إلى الباب العالي يبررون فيها قرار محمد علي، متهمين السيد عمر بتلقي رشوة لتسجيل أقباط ويهود كانوا قد أسلموا في دفتر الأشراف، وأنه تلقى رشوة كذلك من محمد بك الألفي ليساعده على تولي ولاية مصر بعد عزل خورشيد باشا، وأنه تآمر مع المماليك في هجومهم على القاهرة (١٨٠٥)، “وأراد بعدها إحداث فتنة بين الوالي والرعية لغرض في نفسه”، وسعى أصحاب العريضة إلى جمع التوقيعات من مشايخ الأزهر عليها لكن أغلبهم رفض، ومنهم مفتي الحنفية الشيخ الطحطاوي، فكان نصيبه العزل من منصبه.
نجحت المؤامرة، لكنها لم تقص عمر مكرم وحده، بل أطاحت بنفوذ المتآمرين عليه أيضا، فلا محمد علي، الحريص على الاستبداد برأيه، اعترف لهم بعدها بسلطان، ولا الناس حافظوا على احترامهم وتبجيلهم لأولئك العلماء، كما ذبلت الفكرة التي غرسها وعُني بإنمائها النقيب، فقد كان حريصا على أن يشرك المصريين في تكاليف الحكم فشجعهم على التطوع للقتال ضد الفرنسيين ومن بعدهم الإنجليز، كما عمل على أن تكون مصالحهم حاكمة لسياسات الحاكم، فلا يقطع في شؤونهم أمرا دون الرجوع لقادتهم وزعمائهم، لكن خيانة تلك القيادات لعمر مكرم أضاعت هذا الحق وأورثت من جاء بعدهم الهوان، فبعد أن كان زعيم الأمة عمر مكرم يدخل على محمد علي فيُخلي جلساؤه صدر المجلس للنقيب ليجلس بجانب الوالي رأسا برأس، خرج حفيد محمد علي توفيق باشا إلى زعيم الأمة أحمد عرابي عندما أتاه مطالبا بحقوق الناس ليُعلمه أن لا حق له أو لهم، فـ”ما أنتم إلى عبيد إحساناتنا”.
صورة الغلاف بريشة الفنان سعد الدين شحاتة