مثلت دورة انعقاد مجلس شورى النواب الأخيرة سنة 1879 نقطة تحول وبداية الثورة الوطنية الديمقراطية، وبدأ تاريخ جديد في الحياة النيابية المصرية. لم يعد مجلس شورى النواب محل ازدراء أو احتقار، رفض المجلس أن ينصرف، وأعلن النواب أنهم لم يفعلوا شيئا يستحق الذكر وأنه ما زال عليهم الكثير مما يجب أن يفعلوه، وأوله محاسبة الحكومة المسئولة أمامهم، وأنهم في انتظار كل الوزراء مصريين وأجانب لكي يتقدموا إليهم ببرامجهم، ولا بد أن يكونوا مسئولين أمامهم عن كل أعمالهم.
وكانت السياسة المالية الخاطئة للحكومة قد أدت إلى تراكم الديون، الأمر الذي كانت تشجعه الدوائر الأجنبية المتحفزة للتدخل في شؤون البلاد وفرض الوصاية الأجنبية على مصر تحت زعم مراقبة الشؤون المالية للحكومة لضمان سداد الديون، وقد أدى ذلك بدوره إلى زيادة الضرائب بصورة جائرة مما ولد حالة من التبرم الشعبي. وزاد من وتيرة هذا التبرم عدة عوامل يمكن تلخيصها في انتشار التعليم بين الطبقات العليا والمتوسطة من الشعب المصري، وأيضا بداية ظهور الصحف المصرية التي بدأت في توعية الناس ونشر التنوير بين أفراد الشعب، ظهور بعض الشخصيات ذات النزعات التنويرية التحررية من أمثال جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، وانكشاف المطامع الغربية الاستعمارية تجاه الدول الشرقية مما أجج المشاعر الوطنية داخل البلاد.
الامام محمد عبده، جمال الدين الافغاني
تدافعت موجات المد الشعبي لتآزر موقف النواب وتدعم مطالبهم، وانعقد برلمان شعبي موسع في أضخم اجتماع وطني عرفته مصر. كان يوم 2 ابريل سنة 1879 هو موعد التئام هذا الالتفاف الشعبي الكبير حول مطالب الحركة الوطنية المصرية، وفي منزل السيد علي البكري نقيب الأشراف حضر أعضاء مجلس شورى النواب بكامل هيئتهم، وحضر الأعيان وكبار الموظفين وقادة الجيش والضباط والتجار والعلماء وبطريرك الأقباط وحاخام اليهود وشيخ الأزهر.
استمرت الاجتماعات ثلاثة أيام، وانتقلت إلى منزل إسماعيل راغب باشا رئيس مجلس النواب حتى توصل الجميع إلى الاتفاق على وثيقة سميت بـ”اللائحة الوطنية” وتقرر رفعها إلى الخديوي لاعتمادها ميثاقا وبرنامجا وطنيا لمصر.
وثيقة اللائحة الوطنية
عنيت اللائحة الوطنية بمسألة ضمان سداد الدين، وتجنب خطة الوزير الإنجليزي بإعلان إفلاس البلاد، واشترطت اللائحة عدم إشراك وزراء أجانب في الوزارة، وأقرت فقط الرقابة الأجنبية على موضوع سداد الديون. لم يكتف المجتمعون بذلك بل أشفعوه بالتبرع بمبلغ مليون جنيه مصري لسداد قسط الدين المستحق على مصر، الذي كان قد حل ميعاده، وقدموا رفق هذا خطة مفصلة لتسوية الدين المصري كاملا مهما تكن أعباؤه.
لا بد أن نتوقف هنا أمام موضوع آخر عنيت به هذه اللائحة الوطنية ألا وهو المطالبة بالإصلاح الدستوري وتأكيد مبدأ مسئولية الوزارة أمام مجلس النواب. أصر المؤتمر الشعبي الكبير على المطالبة بصدور دستور وقانون انتخاب كامل يكون أساس الحكم والسلطة في مصر، على أن ينص على منح مجلس النواب الحرية التامة وجميع الحقوق في كل الأمور الداخلية والمالية، كما هو جار في أوروبا، ووقع الجميع على هذا المحضر الأهلي.
بلغ عدد الموقعين على الوثيقة 60 من أعضاء مجلس شورى النواب، و60 من العلماء والهيئات الدينية، في مقدمتهم شيخ الأزهر وبطريرك الأقباط وحاخام الإسرائيليين و42 من الأعيان والتجار، و72 من الموظفين العاملين والمتقاعدين و93 من الضباط، وفوضوا لجنة من بينهم حملت الوثيقة إلى الخديوي في 5 أبريل 1879 الذي أعلن على الفور موافقته التامة عليها.
حكومة جديدة
وفي يوم 7 أبريل سنة 1879 دعا الخديوي جميع القناصل الأجانب إلى اجتماع كبير في قصر عابدين شهده أقطاب الحركة الوطنية الدستورية وأعلن أمام الجميع قبوله لبرنامج الإنقاذ الوطني، الذي يتطلب تنفيذه وزارة جديدة تكون مصرية خالصة، وأوضح أن الأمير محمد توفيق قد قدم استقالته، وأن الاختيار وقع على محمد شريف باشا لتولي الوزارة، وأن مهمته الأولى ستكون إعداد الدستور وقانون الانتخاب وإقامة نظام يستطيع تحقيق الأماني التي أجمعت عليها طبقات الشعب.
احتج الوزيران الأوروبيان على «اللائحة الوطنية» وقبول الخديوي لها، وبعثا باحتجاجهما إلى الخديوي يوم 7 أبريل، فبادر الخديوي من فوره إلى تكليف محمد شريف باشا بتشكيل الوزارة، وكان خطاب التكليف مختلفا على أي خطاب تكليف سبقه، وقد جاء فيه إنه كمصري ورئيس للدولة يعتبر أنه واجب مقدس عليه أن ينزل على رغبة بلاده وأن يحقق أمانيه المشروعة إلى أقصى حد. وأقر بان النهج الذي سارت عليه النظارة السابقة أحدث في نفوس الشعب استياءً واضطراباً شمل جميع هيئاته الاجتماعية التي كانت تعيش من قبل في هدوء وطمأنينة، مضيفا: “وطالما نبهت إلى ذلك النظار، ووكلاء الدول المعتمدين لدينا، في مناسبات عديدة، غير أن النظارة لم تلق بالا إلى هذه التنبيهات”.
محمد شريف باشا
اعترضت بريطانيا وفرنسا على المحضر الأهلي أو «اللائحة الوطنية» وتقدمتا باحتجاج أعنف من الاحتجاج السابق على تأليف حكومة مصرية خالصة وعزل الوزيرين البريطاني والفرنسي، معتبرين أن أحدا في مصر لا يملك إصدار قوانين مالية تمس حقوق الأجانب بغير اتفاق معهم، وأن مصر تجردت من سيادتها على ميزانيتها، ولا بد أن تظل الميزانية تحت الإشراف الثنائي للوزيرين الأوروبيين.
وفي 10 أبريل أقرت الوزارة استمرار مجلس شورى النواب في عقد جلساته حيث أن مقتضيات الأحوال تستلزم بقاءه للمذاكرة والمفاوضة معه في أمور مهمة. وبادر شريف باشا إلى إعداد دستور وقانون انتخاب، ولم يمر وقت طويل حتى أنجزهما في 15 مايو سنة 1879، وأحال المشروعين إلى مجلس شورى النواب، فتكونت على الفور لجنة من 15 عضوا من النواب، قامت بدراسة المشروعين، وغيرت وبدلت من نصوصهما، وردتهما إلى مجلس النظار بعد التعديل، فوافق عليهما وأعدا للتصديق من الخديوي.
عزل الخديوي
جاء مشروع الدستور الجديد الذي تمت الموافقة عليه، والذي ينص على حق مجلس النواب في مناقشة وإقرار الميزانية ذروة في التحدي، ليزيد سخط القنصليين البريطاني والفرنسي فتقدما بطلب مشترك إلى الخديوي بأن يتنحى فورا عن العرش.
وتآمرت كل من إسطنبول ولندن وباريس على ما يجري في القاهرة، وباشرت إلى تأليب السلطان التركي لعزل إسماعيل باشا الذي أصدر قرارا بذلك في 26 يونيو 1879، ليخلفه ابنه محمد توفيق باشا في موقعه على سدة حكم مصر.
ذهب إسماعيل، وبقي دستور 1879 شاهدا على رغبة المصريين وأشواقهم الملحة لدستور حقيقي تحكم البلاد على أساسه، وبقيت معركة الدستور قائمة، والتوق إلى الديمقراطية يتأجج في النفوس.
شهادة الرافعي
في التقييم النهائي لا يمكن اعتبار دستور سنة 1879 من الوجهة القانونية دستوراً بمعنى الكلمة، فقد كان ينقصه خطوة واحدة ليصبح كذلك، وهي تصديق الخديوي عليه وبدء العمل به، لكن تدخل الدول الأجنبية والجهات المالية الدائنة وتآمرهم لخلع الخديوي إسماعيل بحجة عدم قدرته على سداد الديون، حال دون التصديق على هذا الدستور. مع ذلك فإن هذه الوثيقة ظلت موجودة لتثبت، ولو من الوجهة التاريخية، أن مصر منذ نحو قرن ونصف من الزمان كانت قادرة على أن تكون دولة حديثة، لها دستورها الذي يصفه عبد الرحمن الرافعي بأنه أول دستور وضع في مصر علي أحدث المبادئ العصرية، ارتضته الحكومة دستورا للبلاد، وقدمته إلي مجلس شوري النواب لإقراره، وخولت له سلطة تشكيل جمعية تأسيسية لوضع الدستور، وجعل الوزارة مسئولة أمامه.
عبد الرحمن الرافعي
وكان بين ما يقضي به هذا الدستور مبدأ يخول لأهل السودان انتخاب ممثلين عنهم في مجلس النواب، تأكيداً على ما بين مصر والسودان من روابط قومية وسياسية، وأن السودان جزء لا يتجزأ من مصر، ويتمتع أهله بما يتمتع به المصريون من حقوق سياسية.
وإلى جانب أن دستور سنة 1879 شكل أساس دستور سنة 1882 الذي صدر في 7 فبراير سنة 1882، فإنه يعد بحق نقطة تحول في التنظيم الدستوري المصري الحديث، من حيث طابعه الديمقراطي الذي استند إلى النظام النيابي البرلماني من حيث الأخذ ببرلمان منتخب من الشعب ووزارة مسئولة أمام المجلس النيابي، ورقابة متبادلة بين السلطتين.