مفهوم المواطنة اكتسب أهمية كبيرة في السنوات الأخيرة، بفعل مجموعة من المستجدات المحلية والدولية على رأسها تزايد الاهتمام عالميا بحقوق الإنسان وتزايد حركة الهجرة وتأثيرها في الوعي السياسي بقضايا التباينات العرقية والتنوع في التركيبة السكانية لبعض الدول، ما بات معه التساؤل حول حقوق متساوية للجميع على أساس من المواطنة يكاد يكون هما عالميا.
ويلفت عالم الاجتماع الدكتور سعيد المصري إلى أن اختفاء تكتلات عالمية كالاتحاد السوفيتي وظهور تكتلات جديدة كالاتحاد الأوروبي أسهم أيضا في تنامي السؤال عن مفهوم المواطنة وتنوع التعريفات التي تسعى لصياغة دقيقة لهذا المفهوم، الذي بات مبدأ تنظيميا مهما في الحياة السياسية المعاصرة، ينتسب الأفراد بمقتضاه إلى كيان سياسي معين، ويرتب لهم تبعا لذلك حقوقا وواجبات محددة على قدم المساواة.
إشكاليات التعريف
وعلى الرغم من تعدد تعريفات مفهوم المواطنة إلا أن مجمل هذا التعريفات تدور حول ثلاثة أبعاد أساسية هي: الواجبات والحقوق الفردية، وحق المشاركة السياسية بما في ذلك حق الانتخاب، والإنتماء إلى دولة قومية بعينها.
وثمة إشكالية أخرى تدور حول مدى الاختلاف والاتفاق ما بين مفهومي المواطنة والجنسية، إذ بينما يساوي البعض بين المفهومين على أساس اجتياز الأفراد لإجراءات التجنيس ومن ثم الحصول على مواطنة كاملة، يرفض البعض الأخر ذلك معتبرا أن المواطنة الحقيقية تقوم على أساس الانتماء بالمولد والنشاة، وهي مسألة تختلف من بلد إلى آخر بحسب الإجراءات القانونية السائدة.
ويؤكد الدكتور سعيد المصري على ان الحقوق والواجبات في المواطنة ليست واحدة بل تختلف من بلد إلى آخر حسب القواعد المعمول بها في كل بلد، فالسائد أن الدولة الحديثة وفقا لسيادتها على مساحة بعينها من الأرض هي من تحدد مفهوم الحقوق والواجبات المترتبة على المواطنة، وقد تضيق هذه الحقوق لفئات بعينها أو تتسع فتشمل الجميع.
الدكتور سعيد المصري
تباين المفاهيم
وثمة اتجاهان كلاسيكيان لمفهوم المواطنة، هما المواطنة بالمفهوم الجمهوري، والمواطنة بالمعني الليبرالي، فوفقا للمفهوم الجمهوري تم التمييز بين المواطنين والعبيد (الذين لا حقوق لهم)، وكذلك الغرباء الذين يعيشون تحت مظلة قانونية تفرض لهم بعض الحقوق في المجتمعات التي يعيشون فيها لكن دون التمتع بالحقوق السياسية المكفولة لمواطنيها فقط.
كما يكمن التمايز أيضا في منح الأسبقية للحقوق الفردية أو لحقوق المجتمع عامة، ففي حين يعطي الجمهوريون الأولوية للشان العام، فإن الليبرالية بطبيعة الحالة تعلي من حرية الفرد. وهكذا فإن المواطنة وفقا للمفهوم الليبرالي هي بمثابة التطور التاريخي للمفهوم الجمهوري للمواطنة، وهو تطور ارتبط بالثورة الفرنسية، ويأتي محصلة تطور تاريخي للعلاقة بين الفرد والدولة.
ويميز الدكتور سعيد المصري بين ثلاثة أنماط للمواطنة، وهي: المواطنة المدنية، والمواطنة السياسية، والمواطنة الاجتماعية. ويقوم هذا التمايز في أشكال المواطنة على أساس الاختلافات السياسية والاجتماعية حول مفهوم المواطنة ومدى قدرته على تحقيق العدالة بين المواطنين.
وأحد أبرز القضايا في هذا الشأن تدور حول حقوق المواطنة وكيفية الحصول عليها، والفجوة بين المواطن والدولة، والإدماج والاستبعاد في الحقوق، وعولمة الحقوق والواجبات، وتندرج تحت كل واحدة من هذه القضايا أنماط أكثر تحديدا للمواطنة.
رؤية تاريخية
ويستعرض الدكتور سعيد المصري هنا رؤية المفكر البريطاني توماس مارشال الذي ذهب إلى ارتباط المواطنة عبر التاريخ بالصراعات الطبقية والحروب من اجل تحقيق المساواة، وعليه مرت المواطنة بثلاث مراحل في سبيل تحقيق مفهومها المعاصر، أولها هو مفهوم المواطنة المدنية ابتداء من القرن الثامن عشر والذي يركز على الحقوق الفردية في الملكية وحرية التعبير والاعتقاد، وتلاه مفهوم المواطنة السياسية في القرن التاسع عشر ليضاف إلى الحقوق السابقة حق الفرد في المشاركة السياسية، وأخيرا المرحلة الثالثة في القرن العشرين التي أضافت حق الفرد في قدر من الرفاهية الاقتصادية.
ارتبط هذا التمايز دوما بدرجة فاعلية المجتمع بما يكفل التوازن ما بين الحقوق والواجبات وصولا إلى مفهوم المواطنة الكاملة والمساواة في الحقوق، لاسيما ما يتعلق بالحقوق السياسية بما يتجاوز أي تمايز في حقوق المواطنين على أسس طبقية، وهي بدورها تشمل عددا من الحقوق بدءا من حق الانتخاب والمشاركة السياسية وصولا إلى حق المعارضة وتنظيم الاحتجاجات وجمع الأموال في الحملات الانتخابية وحماية الأقليات.
ويمكن تقسيم هذا النوع من الحقوق إلى حقوق سياسية شخصية، وأخرى تنظيمية، وثمة ارتباط قوي في المواطنة ما بين الحقوق القانونية ونظيرتها السياسية، وتتمثل الحقوق القانونية في حق الأمن الشخصي، كحقوق الحماية من الاختفاء غير القانوني والحماية من التعذيب ومن عقوبة الإعدام وحقوق العدالة الجنائية وحق الرأي والاختيار.
أنواع المواطنة
ويندرج تحت مفهوم المواطنة مفهوم المواطنة الاقتصادية التي تضمن للمواطن حق العمل وحقق التملك والاستثمار وتكافؤ الفرص، كما يندرج تحتها أيضا مفهوم المواطنة الاجتماعية وتشمل حقوق التمكين كالرعاية الصحية والحصول على معاش في سن التقاعد وحقوق الفرصة التي تشمل الحق في الحصول على تعليم جيد والتهيئة لسوق العمل وحق التعويض، كبدلات الإصابة في العمل أو الحروب، وهناك المواطنة الثقافية التي تشمل حق الحفاظ على الهوية والتراث وحق المشاركة في الحياة الثقافية العامة.
وثمة إشكالية تمثل خطورة لمفهوم المواطنة، حال غياب الثقة والتواصل الفعال ما بين الدولة والمواطنين، ما يجعل اللجوء إلى طرف ثالث كممثل للمواطن هو الحل، فانعدام التمثيل الحقيقي للمواطنين يفتح الباب واسعا أمام أشكال بديلة من التوسط الديمقراطي تتنوع من أشكال عنيفة كالجماعات والميلشيات المسلحة إلى فتح المجال للتوسط بالمحسوبية والسمسرة السياسية، ما يفتح الباب لإدماج البعض في مظلة الحقوق واستبعاد آخرين، فنصبح أمام مواطنة منقوصة الحقوق.
تأتي أهمية هذه الدراسة للدكتور سعيد المصري حول “مفهوم المواطنة” التي تصدر ضمن سلسلة (شرفات) الصادرة عن مركز الدراسات الإنسانية والعلوم الاجتماعية بمكتبة الاسكندرية في تسليطها الضوء على أحدث ما توصلت إليه الحضارة الإنسانية في تنظيم علاقة الفرد بالمجتمع والدولة من حيث الحقوق والواجبات، ما يطرح السؤال البديهي حول موقع مجتمعاتنا العربية من مسايرة هذا المنجز الإنساني الهائل في قضية المواطنة؟ وإلى أي حد يتم تطبيق هذا المفهوم في مجتمعاتنا سواء ما يتعلق بحقوق وواجبات الفرد في الدولة أو التزامات الدولة تجاه حقوق مواطنيها.