رؤى

مواطنون أم رعايا.. لماذا يتأرجح الأزهر بين مفهوم حديث وآخر قديم؟

      لم يظهر مصطلح المواطنة la citoyenneté في الحقل التداولي للثقافة العربية إلا متأخرًا، ذلك أنَّ هذا المصطلح يوناني النشأة، فهو من القيَم التي ترسّخت في فضاء الدستور الأثيني القديم، بصرف النظر عن التفصيلات الاجتماعية الخاصة بالمجتمع الأثيني وقتذاك بإقصاء النساء والعبيد والخصيان عن المشاركة والفاعلية المجتمعية والسياسية.

 لم يعرف العرب قديمًا مفهوم الدولة بالمعنى الحديث للكلمة. ومعلوم أن المواطنة كمبدأ ارتبط بتحول الممالك المقدَّسة الحاكمة باسم الله والكنيسة إلى دول حديثة، لتأتيَ الثورة الفرنسية فتمنح المواطنة دلالات جديدة، بحيث تكون حقا طبيعيا للسكان جميعهم، وليست امتيازا ممنوحا من المجالس النيابية كما كان معمولا به في العهد الروماني.

المواطنة في أثينا القديمة

«المواطنة» ثمرة الدولة الحديثة

     لقد عجّل ظهور الدولة الحديثة في بروز مبدأ المواطنة، واستوائه في الفضاءات السياسية والاجتماعية والقانونية والأخلاقية، من خلال أسبقية الشراكة في الوطن دون غيرها من أي روابط إنسانية أخرى، سواء كانت دينية أم مذهبية أم قومية، فالمواطنة تأكيد للمساواة السياسية بين المواطنين جميعهم، وأهليتهم القانونية والدستورية لتولّي المناصب العامة في أوطانهم، والمشارَكة في المجال العام دون أدنى تمييز ديني أو عِرقي أو عنصري، المواطنة تعني أن المواطن جزء لا يتجزأ من مجتمعه السياسي، له حقوق يتمتع بها، وعليه واجبات يقوم بأدائها، وهو ما أكده الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان، عام 1789، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عام 1948؛ لذلك فإن للمواطنة مكانة مركزية في أي نظام حكم ديمقراطي ينشد المساواة، وتغليب الانتماء للوطن على أي انتماء آخر مهما كان، ما يعني أنها تتيح مشاركة المواطنين جميعهم في الحكم والسياسة، بما يقضي على صور الاستبداد والتسلط كلها، فليست المواطنة مصطلحا جامدا معزولا عن الواقع الإنساني، وضرورات حياة المواطن؛ فهي «ليست مقولة مجردة، ولا هي واقعة جامدة، أو خلقة طبيعية معطاة بكيفية نهائية، إنها فعل إنساني يستمر البحث عن حقيقته في مسار تحققه الوجودي بصورة دائمة التجدد» [أدونيس العكرة، التربية على المواطنية وشروطها في الدول المتجهة نحو الديمقراطية، ص 23]

     كما أسلفنا، فإن مصطلح المواطنة ليس أصيلا في الثقافة العربية، فهو مفهوم غربي النشأة والمدلول، يتمحور حول معاني الاعتراف بالآخر وحقوقه كلها، بعيدا عن التعصب والدوغماطيقية، فهي في الفلسفة السياسية المعاصرة تعني «الانتماء إلى الوطن، انتماء يتمتع المواطن فيه بالعضوية الكاملة على نحو يتساوى فيه مع الآخرين الذين يعيشون في الوطن نفسه مساواةً كاملةً في الحقوق والواجبات وتكافؤ الفُرَص وأمام القانون، دون تمييز بينهم على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الجنس أو الفكر أو الموقف المالي أو الانتماء السياسي، ويحترم كل مواطن المواطن الآخر، كما يتسامح الجميع تجاه بعضهم البعض رغم التنوع والاختلاف بينهم، ومن مميزات هذا التعريف أنه يجمع في طياته معانِيَ كثيرة تؤكد ارتباط المواطنة بالحداثة والتنوير، ومن هذه المعاني: احترام القانون، حقوق الإنسان، والفصل بين السلطات، والارتباط بين المواطنة والمجتمع المدني والديمقراطية؛ فلا مجتمع مدنيّ دون مواطنة ولا مواطنة دون ديمقراطية ولا ديمقراطية حقيقية دون مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، متشاركين في نظام الحكم من خلال التنظيم القانوني والدستوري، ما يعزّز الارتباط القوي بين المواطنة والحداثة، وكلا المفهومين جديدان في حقل الثقافة العربية/ الإسلامية، المثقَلة بتضخم الجانب الفقهي والنزعة النصية الجامدة المغلَقة، وهذا ليس افتئاتا على الواقع، بل هو الاعتراف الذاتي بأن تلك القيم التي يفرزها مصطلح المواطنة لم نعرفها في تاريخنا إلا من خلال الثقافة الغربية، فلم نعرفها في الفضاء التداولي العربي إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، بعد الاحتكاك بموجات الحداثة الأوروبية، منذ بزوغ فجر البَعثات العلمية التي أرسلها محمد علي باشا الذي حكَم مصر والسودان بين عامي 1805 إلى 1848 إلى أوروبا (فرنسا وإنجلترا والنمسا)، ابتداءً من البَعثة الأولى في العام 1826، وانتهاءً بالبَعثة التاسعة والأخيرة في العام 1847».

رعايا لا مواطنون!!

     وفي الوقت الذي غاب فيه مصطلح «المواطنة» عربيا، عُرِف وفشَا مصطلح «الرعية» Sujet، فالمواطن العربي المسلم أو الذمِّيّ أضحى، طوال حقب التاريخ، مجرد رقم بين أرقام «رعايا» الخليفة، تماما كما كان الحال في المجال الغربي المسيحي القروسطي، قبل تتابُع موجات الحداثة، وقد أمعنت نصوص الآداب السلطانية في ذِكرِ هذا المصطلح والتهوين من شأنه، إذ ليس للرعية حقوق تضمن وجود شخصية مستقلة لهم، فيما يجب عليهم تنفيذ أوامر الخليفة أو السلطان وطاعته في المنشَط والمكره، وعدم الخروج عليه والولاء المطلَق لحُكمه؛ لذلك لم يكن غريبا أن يُغيَّب «الرعايا» عن المشارَكة في الشأن العام، وتُغيَّب – تبعا لذلك – مبادئ العدالة والحرية والاستقلالية الشخصية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان ومرجعية القانون والتشريع الذي يشترك المواطن في صياغته وإقراره، وغيرها من معانٍ وقِيَمٍ يفرزها إحساس الفرد بكونه «مواطنًا» في دولة يحكمها عقد اجتماعي ودستور ذو قواعد عامة كلية حاكِمة، ومبادئ معيارية وأخلاقية، لا كونه أحد «رعايا» الخليفة، الذي صار متملِّكًا بفعل الغلَبة والقوة والشرعية الإلهية التي يكفلها له أشياخ السلطان، لتكون علاقة الخليفة بالمواطنين علاقة تلازمية لا تنفصم ولا تتبدّل، كعلاقة الراعي بقطيع الأغنام أو الإبل، فـ «الرعية بلا والٍ كالأنعام بلا راعٍ» [عبد الرحمن الشيزري، السياسة في تدبير الإمارة، ص 79]، وهو ما عبّر عنه ابن خلدون في مقدمته، فقال: «فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية، القائم في أمورهم عليهم، فالسلطان من له رعية والرعية من لها سلطان، والصفة التي له من حيث إضافتهم إليه هي التي تسمى المملكة، وهي كونه يملكهم» [المقدمة، 1/ 323].

 وليس معنى هذا أن الحقل التداولي للثقافة الغربية لم يعرف مصطلح «الرعية»، بل كان معروفا متداوَلا هناك، لكن الحداثة الأوربية استطاعت تغيير هذا المصطلح تماما فاستبدلت به مصطلح المواطنة أو المواطنية، وهو الأمر الذي أسّس بعد ذلك للتسامُح والتعددية وتداول السلطة والمساواة والعدل وتكريس حقوق الإنسان، وغير ذلك من قِيَم حداثية ليست كلها بعيدة عن رُوح الإسلام وكثير من نصوصه التي تهدف إلى إقرار تلك القِيَم، التي يطبقها الغرب فيفيد منها المواطن العربي المسلم وغير المسلم، المهاجر من بلاده تحت وطأة التمييز أو القمع أو الإحساس بالتهميش.

النص الدستوري على «المواطنة» لا يكفي

     إن الهدف الذي نروم تحقيقه ليس تفعيل المواطنة كمبدأ سياسي وقانوني يكفله دستور وقوانين الدولة الحديثة، استيفاءً لشكل الدولة الدستورية القانونية الحديثة فحسب، بل نروم تحقيق هذا المبدأ تحقيقا عمليا وواقعيا وَفقًا للقيم المعمول بها على مستوى العالم المتقدِّم، بأن يتمتّع المواطنون بالحرية الكاملة والسيادة الشخصية والذاتية، وحق التمتع بالحياة دون ضغوط أو وسائل قهر، فالمواطن لابد أن يشعر بأنه مواطن سيد لا رعية مُنقَاد، وهذا هو لُبّ القضية، قضية أن تطبَّق المواطنة تطبيقا عمليا غير مختَزل في صورة سياسية معينة، بل بضمان حق المواطن  في الاختلاف والحرية والتعدد المذهبي والإبداع بصوره كافة، فليس من المعقول أن تُدرَج مناهج المواطنة ضمن خطط التعليم العام والأزهري، وأن تقوم بعض الأحزاب السياسية بإدراج مناهج المواطنة ضمن أماناتها ولجانها النوعية، بينما الواقع المعيش لا يتساوق مع ما تقرّره تلك المناهج، فيغيب التطبيق عن النظرية، وتغدو المواطنة مصطلحا شبه مثالي لا يجد مستقرًّا واقعيا له، ولا ضمانات تحققه، بمعنى أننا لا نؤمن حقيقة بهذا المصطلح، وكأننا لمّا نزل نحمل في داخلنا صفة «رعية»، ولا أدلّ على ذلك من البيان الختامي الأخير لمؤتمر تجديد الفكر الإسلامي، في يناير الماضي، والذي عانى نوعا من الإزدواجية في اعتماد مصلح «المواطنة» حينا و«الرعية» حينا آخر دون حسم، فالبيان ينص على أن من واجبات الجاكم «العمل على حماية رعيته» وهو تصور للعلاقة بين الحاكم والمحكوم تجاوزته الخبرة البشرية، والأهم أنه يتناقص مع تصور عصري آخر يظهر في بنود بيان الأزهر ذاته والذي نص على أن «الدولة في الإسلام هي الدولة الوطنية الديمقراطية الدستورية الحديثة. والأزهر – ممثلا في علماء المسلمين اليوم- يقرِّر أن الإسلام لا يعرف ما يسمى بالدولةِ الدينية».

اقرأ أيضا:

قراءة في بيان مؤتمر الأزهر للتجديد

أحمد رمضان الديباوي

مدرس العقيدة والمنطق بالأزهر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock