أزمة حقيقية تواجه الديمقراطية في جميع أنحاء العالم، حسب دراسات أكاديمية وتقارير حقوقية عدة، وفي المقابل ترى تحليلات اعتمدت على بيانات صادرة عن مشروع Varieties of Democracy Project، أن مستوى الديمقراطية في العالم لم يشهد تغيرا جوهريا.
صحيفة “واشنطن بوست” The Washington Post سعت لحل هذا اللغز في دراسة مهمة نشرتها أخيرا بعنوان How Flawed constitutions Undermine Democracy (كيف تقوض الدساتير المعيبة الديمقراطية؟) للباحثَين مايكل ألبرتوس، أستاذ مساعد العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، وفيكتور مينالدو، أستاذ مشارك العلوم السياسية في جامعة واشنطن، تكشف أن التراجع الذي تشهده الممارسة الديمقراطية في العالم هو تراجع كمي، وليس نوعيا، نتيجة اعتماد كثير من الأنظمة الديمقراطية على أسس دستورية تعود إلى إرث سلطوي.
وحسب الدراسة، فإن دول مثل أوكرانيا والمجر وتركيا وبولندا وفنزويلا تدور غير بعيد عن فلك السلطوية، كما دأب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على خرق المعايير الديمقراطية عبر هجومه المتواصل على وسائل الإعلام ومؤسسات الدولة القانونية مثل وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالية، حال يعكس أداؤها ما يخالف توجهات سياساته، ما شجع العديد من النظم السلطوية الحليفة للولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم على سحق معارضيها، وهي مطمئنة إلى أن أقصى رد فعل يمكن أن يصدر عن الخارجية الأمريكية هو إدانة معتدلة اللهجة.
بل أن نتائج اقتراع أجري أخيرا، ونشرتها صحيفة The Washington Post في مقالة مطلع العام الجاري بعنوان A Significant Minority of Americans Say They Could Support a Military Takeover of the U.S. Government كشفت أن عددا مذهلا من المواطنين الأمريكيين سيؤيدون –في ظروف مواتية- استيلاء عسكري على شئون الحكم في بلادهم.
متى تتهدد الديمقراطية؟
تؤكد إحدى النظريات أن خطر تراجع مستوى الديمقراطية وانهيارها يزداد في المجتمعات التي تتآكل فيها معايير العمل السياسي غير الرسمية. ففي كتابهما How Democracies Die، الذي نشر في يناير 2018، يحدد الكاتبان، ستيفن ليفيتسكي ودانيل زيبلات، خطوات محددة لتحول الديمقراطيات إلى دول استبدادية، ويؤكدان أن الديمقراطية تعتمد بشكل كبير على وجود رغبة حقيقية لدى المواطنين والنخبة على السواء في تقبل الخصوم السياسيين والعمل معهم، كما تتعزز عبر ممارسة السلطة السياسية بقدر من القيود والضوابط، وليس بصورة مطلقة. ويرى الكاتبان أن قيم التعاون في ظل الاختلاف السياسي تساعد على صياغة وإنفاذ دساتير ديمقراطية، ما يعني أن الدول تخاطر بالانزلاق نحو الاستبداد عندما تشرع النخبة السياسية في ممارسة السياسة بلا قيود.
دساتير متحيزة
هناك عوامل أخرى يجب وضعها في الاعتبار، ففي دول كثيرة، يعود التراجع عن الديمقراطية إلى جذور أكثر عمقا. ففي كتاب Authoritarianism and the Elite Origins of Democracy، الذي نشر في أول فبراير 2018، يوثق المؤلفان، مايكل البرتس وفيكتور مينالدو، حقيقة مهمة مفادها أنه من بين 122 حالة تحول ديمقراطي كامل شهدها العالم منذ عام 1800 حتى يومنا هذا، ورثت 80 ديمقراطية جديدة (بمعدل 66%) دستورها عن أنظمة سلطوية سابقة عليها. تتضمن هذه النسبة عددا من أوائل الديمقراطيات في العالم، مثل هولندا وبلجيكا والسويد والنرويج، فضلا عن النظم السياسية الجديدة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، مثل الأرجنتين وتشيلي وكينيا والمكسيك ونيجيريا وجنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية.
وتؤكد الدراسة أنه عندما يقوم نظام استبدادي منتهية ولايته ببناء مؤسسات ديمقراطية، فإنه يعمد إلى تأمين أعضاء نخبته ضد مبدأ سيادة القانون، ومنحهم مميزات سياسية واقتصادية داخل المنظومة الديمقراطية الجديدة تهدف إلى المحافظة على مكتسباتهم، وتجنبهم كافة أشكال المحاسبة على جرائم انتهاك حقوق الإنسان والقمع السياسي.
لذا، فلا عجب من أن بعض هذه الدساتير المتحيزة تحمل في طياتها بذور الانتكاس إلى نظم ديكتاتورية. ربما ينعتق المواطنون من الممارسات القمعية والرقابية السابقة، لكنهم لا يتمتعون بحقهم في المساواة، ولا يمارسون دورهم كلاعب محوري في تقرير السياسة العامة لبلادهم. في هذه الديمقراطيات المشوهة يسعى السياسيون الانتهازيون في أغلب الأحوال إلى إثارة الرأي العام، وحشد الجماهير لحجب الثقة عن النخبة “الفاسدة”، والإطاحة بمؤسساتها “الزائفة”. وبعد ذلك، يستخدم هؤلاء الديماجوجيون السلطة ضد بناء توافق عام والتأطير للحريات المدنية.
تكريس الاستبداد
المعضلة أن عملية تعديل هذه الدساتير تتسم بصعوبة بالغة؛ إذ يتطلب إجراؤها أغلبية كبرى. في الوقت ذاته، تقوم الأقلية الحاكمة والنخب، التي تثرى في ظل هذه الدساتير، بتمرير سياسات تجذر لسلطتها للحيلولة دون إجراء أي تنافس سياسي على أسس متكافئة.
ولنأخذ مثلا، دولة بورما (ميانمار)، صحيح أن المجلس العسكري سمح بإقامة انتخابات في عام 2015، تقلدت على إثرها أون سان سو تشي والاتحاد الوطني للديمقراطية السلطة، لكن هذا حدث في ظل دستور عام 2008 الذي تم إقراره أثناء الحكم العسكري. وقبل تسليم السلطة، قامت السلطة التشريعية بتمرير حزمة قوانين تضمنت العفو العام عن قيادات عسكرية متهمة بانتهاك حقوق الإنسان، وخطة منح رواتب تقاعد سخية للمشرعين عند بلوغ سن التقاعد، وعقود أعمال مربحة لقيادات الجيش عند بلوغهم سن التقاعد أيضا. إضافة إلى ذلك، يمنح الدستور العسكريين 25% من مقاعد البرلمان، وهي النسبة المطلوبة للحيلولة دون إجراء أي إصلاحات دستورية.